القدس والإجراء الأخير لليونسكو

ت + ت - الحجم الطبيعي

جاءت الخطوة الأخيرة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) بوضع مدينة القدس المحتلة على موقعها الإلكتروني باعتبارها «عاصمة لإسرائيل» خطوة مفاجئة تتناقض مع قرارات المنظمة ذاتها التي درجت طوال السنوات على التأكيد بأن القدس مدينة عربية محتلة وفقاً للقانون الدولي، ولقرارات مجلس الأمن وباقي الهيئات الدولية. كما تتناقض مع وظيفتها ومهامها المعنية بها.

كما جاء الإجراء إياه استفزازياً بكل ما للكلمة من معنى ليس للشعب العربي الفلسطيني فقط بل لعموم العرب والمسلمين ولأحرار العالم على امتداد المعمورة، ويمس بحقوق الفلسطينيين التاريخية والدينية ويستفز مشاعر ملايين المسلمين والمسيحيين في العالم. فلماذا جاء هذا الإجراء الذي يتناقض أصلاً مع مادرجت على اشتقاقه منظمة اليونسكو من قرارات وتوجهات بالنسبة للقضية الفلسطينية ومختلف عناصرها، وتحديداً في هذا الوقت بالذات...؟

وللإجابة على التساؤل الوارد أعلاه، نقول بان هناك عدة عوامل مجتمعة ساهمت في ولادة الإجراء الأخير من قبل منظمة اليونسكو، وأول تلك العوامل يتمثل في قصور الدور العربي داخل الأطر والهيئات والمؤسسات الدولية المعنية وتحوله إلى عمل موسمي مقابل نشاط وبروز الدور «الإسرائيلي» الصهيوني.

وثاني تلك العوامل يتمثل في وجود حالة من الإهمال والنسيان من قبل النظام الرسمي العربي لقضية القدس والأقصى، والوجود العربي والإسلامي فوق أرضها في وقت تتعرض فيه المدينة يومياً لكابوس الاستيطان والتهويد الزاحف الذي أكل أحياءها المحيطة بها، وحتى أحياءها داخل القدس القديمة (داخل الأسوار) دون أي موقف عربي على المستوى العملي اللهم سوى البيانات الاعلامية التي لاتغني ولاتثمر إذا بقيت وحدها دون فعل ملموس.

وثالث تلك العوامل يتمثل في التقصير العربي والإسلامي تجاه مد المدينة المقدسة وشعبها الصامد فوق أرضها بمقومات الثبات والصمود، وخصوصاً بالنسبة للجانب المادي حيث بقيت كل القرارات العربية ومنها قرارات قمة سرت العربية الأخيرة، مطوية في الأدراج ولم تحول إلى الآن أموال الصمود التي خصصت للمدينة المقدسة وللمؤسسات العربية الإسلامية والمسيحية فيها.

إلى ذلك، إن قرار اليونسكو يشجع سلطات الاحتلال «الإسرائيلي» على استكمال عمليات التهويد الجارية بحق مدينة القدس المحتلة، وتحديداً في ظل جرائم الاحتلال الأخيرة التي باتت تمس المعالم التاريخية للحضارة العربية الإسلامية والمسيحية داخل مناطق المدينة كما حدث مؤخراً مع مقبرة (مأمن الله) التي تضم رفات عشرات الصحابة، والتي جرى تجريف أجزاء منها لإقامة ما يسمى بمتحف التسامح (لاحظوا منطق الاحتلال : إقامة متحف التسامح فوق رفات الصحابة).

ولا ننسى أن الحفريات التي قامت وتقوم بها سلطات الاحتلال أدت إلى حدوث تصدع بعض الآثار الإسلامية القريبة من الحرم القدسي الشريف، الأمر الذي رأت معه منظمة اليونسكو خلال السنوات الماضية إجراءات مرفوضة وتمثل تهديدا للتراث الإنساني والحضاري القائم في مدينة القدس، وعليه فقد بادرت إلى تسجيل المدينة على قائمة التراث العالمي وطالبت «إسرائيل» بأن تمتنع عن استئناف حفرياتها ووقف التعديلات التي تحاول إدخالها على التنظيم المدني والتخطيط العمراني للمدينة. واتخذت منظمة اليونسكو في حينها إجراءات من شأنها تحقيق أغراض حماية الطابع الخاص للقدس وما تضمه من آثار ومواقع تاريخية وثقافية ودعت أيضاً إلى الاحتفاظ الدقيق بكلّ المواقع والمباني والأملاك الحضارية في المدينة، وخصوصًا في مدينة القدس القديمة، والامتناع عن أيّ حفريات أثرية، ومن نقل مثل هذه الممتلكات، ومن أي تغيير في مظاهرها أو في صفتها الحضارية والتاريخية.

من هنا، لقد كان على اليونسكو أن تحترم بالأساس قراراتها وتوجهاتها، وأن تسارع في التحرك من أجل حماية الحضارة والتراث والثقافة الفلسطينية المستهدفة من قبل سلطات الاحتلال في مدينة القدس، باعتبارها جزءاً من تاريخ التراث العالمي.

إن منظمة اليونسكو معنية الآن بالتمسك ببنودَ اتفاقية (لاهاي) لحماية الممتلكات الحضارية في حالة النزاع المسلح، وهو ما أكد عليه القراريْن (3/342) و(3/343) اللذيْن اتخذهما المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو في دورته الخامسة عشرة، والقرار رقم (242) الذي اتخذه المجلس التنفيذي في دورته رقم (82).

كما أن منظمة اليونسكو معنية بالتمسك بكافة القرارات الدولية والتي سبق لها وأن أعلنت التزامها بها، ومنها على سبيل المثال قرار مجلس الأمن رقم 252 (1968) الصادر في 21 أيار (مايو) 1968، ورقم 267 (1969) الصادر في 3 تموز (يوليو) 1969، وقراريْ الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2253 ورقم 2254 الصادرين في 4 و14 (يوليو) (1967) على التوالي، المتعلقة برفض أي إجراءات أو أعمال تؤثّر في وضع مدينة القدس. وبكل الحالات، إن خطوة اليونسكو الأخيرة، تنطوي على سياسة منحازة للاحتلال الذي يمضي في عمليات تهويد واستيطان متسارعة للقضاء على المعالم التاريخية، وتغيير وطمس الحقائق على الأرض دون أن تتحرك الأمم المتحدة لكبح جماحه.

 كما تعتبر من الوجهة الوطنية الفلسطينية، ومن وجهة القانون الدولي، عملاً خطيراً، وانتهاكاً صارخاً للقرارات والقوانين الدولية الخاصة بمدينة القدس وانحيازاً للدولة العبرية الصهيونية التي قامت عام 1948 على أنقاض الكيان الوطني والقومي للشعب العربي الفلسطيني.وخلاصة القول، إن منظمة اليونسكو مطالبة الآن بالعدول عن هذا الإجراء، استجابة لمنطق العدالة والتوازن، والابتعاد عن الانحياز، واستجابة لمنطق الحق والقانون الدولي، وإلا فان اليونسكو باتت طرفاً منحازاً، وغير مؤهل للقيام بما نادت به المنظمة أساساً منذ قيامها كمنظمة دولية تابعة للأمم المتحدة ومعنية بحماية الثقافات البشرية والتراث الإنساني العالمي.

Email