الجمعة الأخيرة مع محمد بن حاضر

ت + ت - الحجم الطبيعي

يشاء القدر أن تكون الجمعة الماضية جمعتنا الأخيرة مع الصديق الكبير محمد خليفة بن حاضر، لكنها لم تكن كسابقاتها. كانت جمعة الوداع الأخير، بعد رحلة صداقة قوامها التقدير والاحترام والمحبة المتبادلة.

قبل ست سنوات، وكنت ما زلت أتلمس الخطى في محطة اغترابي الجديدة، دبي، أخذني الصديق العزيز محمد بن مسعود، للتعرف على محمد خليفة بن حاضر. أشهد أن حميمية اللقاء الأول أشعرتني كما لو كنت أعرف أبا خالد من سنوات. تتلاشى غربة المثقف حينما يجد قبيلته الجديدة، صحبة من تتلاقى الأفكار والأرواح معهم. كان محمد بن حاضر قبيلتنا الجديدة، ما اشتدت أعاصير الاغتراب إلا وكنا في حماه.

وعلى كثرة اللقاءات والاتصالات الأسبوعية مع محمد بن حاضر، إلا أن ظهر الجمعة كان علامة فارقة في أيامنا معه. في منتجعه الجميل على شاطئ الجميرة، نلتقي ظهر الجمعة لساعة نتبادل فيها الأحاديث في السياسة والشعر وآخر الأخبار. أشهد أن أباخالد عملة نادرة في حبه ووفائه لأصدقائه، مهما بدر منهم - أحياناً - من جفاء أو قطيعة. وكان في حبه لفعل الخير أسطورة تذكرنا فعلاً بقصص أولئك الأبطال الذين نقرأ عنهم في كتب التاريخ، من فرسان الكرم والمروءة والمواقف التي لا تهزها ريح المصالح والمجاملات.

 لا أذكر أنني جلست معه يوماً من غير أن أسمعه يهاتف شيخاً أو مسؤولاً كبيراً، من أجل علاج مريض أو فك ضيق معسر. وأستطيع القول إن الفضل يعود لأبي خالد في معرفتي بعدد كبير من مثقفي الإمارات ومسؤوليها. ما إن أذكر له اسم مثقف أو مسؤول إماراتي، حتى يبادر بالاتصال به والتعريف بي.

ومن يعرفه عن قرب يدرك عمق غيرته على مستقبل وطنه وأمته. كنت أحزن أن البعض لا يقوى على فهم انفعالات أبي خالد وحدَته أحياناً في النقاش، فالرجل ينتمي إلى صف مختلف من المثقفين والأدباء. لا يجامل ولا يساوم أبداً في رأيه، حتى لو كان الثمن مصالحه الخاصة.

ومهما اختلفت معه في الفكر أو الرأي، فإنه لا يلغيك من دائرة الأصدقاء والمعارف. في مجلسه في رمضان، كنت غالباً أجلس إلى يمينه، وحينما يُستفز في مسائل تمس وطنيته أو قوميته، يدافع عن رأيه بضراوة، ثم يهدأ ويغير موضوع النقاش لكيلا يحرج ضيوفه. هو شديد الغيرة على أحوال أمته، وكم مرة ناشدني أن أتصل ببعض من أعرف من صناع السياسات الخارجية في المنطقة، لنقل وجهة نظره إزاء أحداث المنطقة. ومرة دعوته أن يكون ضيفي في برنامجي التلفزيوني "حديث الخليج"، لكنه اعتذر بأدبه المعهود شارحاً لي: أنت تعرف جيداً أنني شديد الانفعال حينما يطال الحديث بعض المسائل الوطنية والعربية، ولا أريد أن يقودني الانفعال لأي حرج!

خسارتي في محمد بن حاضر شخصية وفكرية. فشخصياً، كان أبو خالد صديقاً صدوقاً، أذهب إليه في أوقات الشدة أو عند الحاجة لحديث مع صديق أعرف أنه يعاملني مثل أخيه، وأحياناً كما لو كنت ثالث أولاده. يا إلهي؛ كيف كان محمد بن حاضر يجيد قراءة وجوه أصدقائه.

جئته أكثر من مرة هرباً من إحباطات الحياة وبؤسها، وكنت أتظاهر بالهدوء فما هي إلا دقائق حتى يستأذن الحضور ويأخذني بيدي نمشي قليلاً، ثم يلح في السؤال: ما الأمر؟ وعلى مستوى الفكر والتاريخ، كانت الجلسة مع محمد بن حاضر مجلس علم وأدب، خاصة إن انطلق في الحديث عن مثاله العملاق المتنبي، أو عن ابن خلدون، أو القائد الكبير نابليون الذي يعرف أدق التفاصيل عن سيرته.

قبل سنتين، استضافني الراحل في رحلة قصيرة لباريس، وكانت الفكرة أن أزور متحف اللوفر في معيته. وأن تتجول في اللوفر مع أديب ومثقف مثل محمد بن حاضر، فتلك تجربة عمر. بعد جولة طويلة في اللوفر، وفي زحمة المئات من حولنا، التفت نحوي وسأل بغضب: أرأيت يا دكتور؟ إن الحضارة الغربية لم تأت بين ليلة وضحاها؟ وسأل بحرقة الغيور على ثقافته: أي إسهام لنا في حضارة اليوم؟

تغنى محمد بن حاضر بعشقه الكبير لوطنه، وكان مدرسة في الحديث عن مآثر الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمهما الله. وله مع كل منهما قصص كثيرة، فيها دروس كبرى في الوفاء والنبل والإنسانية. وكان الحنين يشده كثيراً لأيامه الخوالي، حينما أسس وصديقه الأديب الإماراتي محمد المر ندوة الثقافة والفنون في دبي، أو عمله دبلوماسياً في بيروت وكراتشي، ولعله، مثل أعظم الشعراء والمفكرين في تاريخنا، عاش غربته الخاصة، في سنواته الأخيرة، مع المكان وأصدقاء الزمن الجميل الذي مضى:

لا الليـــــل ليلــــي، لا ولا النجـــوى إذا نــاجيتُ ذاتــــي

حتى الندامـــى غــــادروا حــــانَ الليالــــي المقمــــراتِ

ومثلما كان محمد بن حاضر نديماً في غربتي، فإنني أزعم أنني كنت أيضاً ـ مع قائمة من أصدقائه القدامى ـ نديمه في حكايات الثقافة والسياسة وخيبات الأمل! حكايتي في دبي مرتبطة، في كثير من تفاصيلها، بصداقتي مع محمد بن حاضر. كان فعلاً أخي الذي لم تنجبه أمي. ولن أنسى ما حييت احتفاءه الكبير ــ قبل شهر ــ بولادة ابني خليفة. وكانت تهنئة مختلفة، لأنها من شاعر وصديق هو من مفاجآت زماننا:

بـ"خليفة الهتلان" سر فؤادي فجــرٌ أطل على ذويــه ينادي

هبوا احمدوا ربا جــوادا جوده يــزري بكـل مســوّد وجــواد

مـــا نحـن إلا ســـره في عالــم متناسق هو عالم الأضداد!

فورودنـــــا وصدورنــــا بقــراره ونشورنا.. رهن بيوم معاد!

رحمك الله يا أبا خالد، وألهم أهلك وذويك ومحبيك الصبر على فقدك المفاجئ الأليم. فها نحن نردد رثاءك الحزين:

ريــــــحٌ تئـــــن بحرقـــــــــةٍ ثكلــى تئــــن علـــى رفـاتِ

 

Email