مواطنون لا رعايا

ت + ت - الحجم الطبيعي

هذا عنوان لكتاب قديم ولكنه هام ومؤثر، أصدره الشيخ خالد محمد خالد في مطلع خمسينيات القرن العشرين، مع نهايات الحكم الملكي في مصر. وكان الكتاب قد أحدث صدى قويا، وأظن أن شعار الثورة المصرية: «ارفع رأسك يا أخي» جاء متأثرا بمضمون الكتاب، إذ تكاد تكون المرة الأولى التي يظهر فيها المفهومان: المواطنة والرعية، بهذا الوضوح. فقد خلت كتابات الفكر السياسي العربي ـ الإسلامي، قبل ذلك، من ذكر لمفهوم المواطنة. وغياب المفهوم في الفكر والكتابة، يعني بالضرورة غيابه في الواقع والحياة.

ورغم أن المفهوم قديم ويعود إلى الإغريق وروما القديمة، إلا أن المعنى ظل قاصرا، ولم يكتمل إلا مع الثورة الفرنسية عام 1789. ففي الماضي كانت المواطنة تشير في العصور الإغريقية والرومانية إلى «كل إنسان مدعو بثروته وجاهه إلى ممارسة سلطة سياسية وتسيير شؤون المدينة». وهذا الحق لم يكن عاما، فقد تم استثناء العبيد والنساء، وأحيانا المعدمين والفقراء.

ولكن خلال الثورة الفرنسية، وبعد أن أطلقت شعار: الحرية والإخاء والمساواة، ثم أسقطت الألقاب الطبقية، صار كل فرنسي يخاطب بصفة «مواطن». ولكننا في المنطقة العربية وطوال أكثر من قرنين، لم نتأثر بهذا التطور الإيجابي في علاقات المجتمع والدولة.

يرجع غياب المواطنة ـ فكرا وواقعا ـ إلى سيادة الاستبداد في الحياة العربية الإسلامية. فالحكم الاستبدادي لا يتعايش بالمرة مع المواطنة، لأن أسس المواطنة تقوم على حقوق وواجبات، ثم على عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم تترتب عليه تنازلات ومساومات.

فالحاكم مطلق السلطات، لا تحد منها مجالس ولا رقابة، إلا ورعه أو ضميره، إن وجد. ولم تعد ظاهرة الاستبداد خارجية ومفروضة، بل تم استبطانها وصارت جزءا لا يتجزأ من الشخصية العربية، إذ ينظر للاستبداد كدليل على القوة والرهبة. ألم يطلب الشاعر العربي من حبيبته (هند) أن تستبد مرة، إنما العاجز من لا يستبد؟ فالاستبداد ليس حكرا على الحاكم، بل نجده مبثوثا في كل أطياف المجتمع: في المدرسة والجامعة ومكان العمل والمنزل والحزب.

فالمستبدون والطغاة والفراعنة، موجودون في أماكن كثيرة في المجتمعات العربية والإسلامية، حتى أن المرء يتشكك أحيانا: هل صحيح الاستبداد شرقي؟

قفز هذا الموضوع والعنوان إلى ذهني، بينما أنا أتابع سلوك الرؤساء والحكام تجاه مواطنيهم وشعوبهم، أو حتى رعاياهم. فهل يصدق هذا التقتيل المرعب للمواطنين بطريقة لا يمكن فهمها؟ وهل هؤلاء الحكام يكرهون شعوبهم لهذه الدرجة؟ ما فعله هؤلاء بشعوبهم، كان سوف يتردد في فعله أي غازٍ أو محتل أو حاكم أجنبي، فهو سيضع في الاعتبار الاتفاقيات الدولية والهيئات والمنظمات الحقوقية.

أما حكامنا فالتبريرات والابتزازات جاهزة، فهذا تدخل أجنبي في الشؤون الداخلية، أو حتى حرب صليبية ضد المسلمين. فهم يستخدمون الطائرات الحديثة والدبابات المتطورة وصواريخ غراد والراجمات، ضد المواطنين العزل الذين يهتفون: سلمية سلمية! وعندما كان هؤلاء الرؤساء ينفقون مئات ملايين الدولارات من الميزانيات الوطنية، وعلى حساب الصرف على التعليم والصحة؛ كنا نظن أن هذه الأسلحة المكدسة سوف تستخدم يوما ضد العدو!

وهكذا تمت معاقبة الشعوب أكثر من مرة، حين اقتطعت أموال التسليح من ميزانيات التنمية، وحرمت من التعليم الجيد والعلاج المجاني. وصاحبت صفقات التسليح، العمولات والرشاوى والفساد في الاختيار والعطاءات. وأخيرا، تجيء الكارثة الكبرى، وهي قتل المواطنين الأبرياء العزل بهذه الأسلحة.. حشفا وسوء كيل، كما يقال.

يتميز هؤلاء الحكام الشاذون بالقدرة على المغالطات والتدليس، وبعضهم يتحدث عن الشرعية الدستورية وصناديق الانتخابات. ففي كل ديمقراطيات العالم عندما تخرج مثل هذه الحشود للشوارع وتتصاعد الاحتجاجات والاعتصامات؛ فإن الرئيس يستقيل فورا ويقيل حكومته، مقرا بأن تفويضه الشرعي قد انتهى. هذه هي الشرعية الدستورية، فهي ليست سرمدية بل عرضة لسحب الثقة بهذه الأساليب.. فهم ينطبق عليهم حرفيا قول الشاعر: أسد علي وفي الحروب نعامة.. ربداء تجفل من صفير الصافر.

يبقى السؤال قائما: ما هي مبررات وتفسيرات هذا السلوك السياسي المشين؟ من البدء هؤلاء حكام لا يحترمون شعوبهم، لأنهم لم يصلوا إلى السلطة من خلال إرادة هذه الشعوب. فقد جاؤوا إلى الحكم رغم أنف شعوبهم، إما عن طريق الانقلاب العسكري المباشر أو وراثة عن سلف انقلابي. وبالتالي فهموا سلطتهم كعلاقة طاعة، وليست علاقة عقد اجتماعي شرعي.

ونتيجة لهذه البداية، فالسلطة في نظرهم غنيمة وترف وطغيان. وهذا فهم تاريخي لازم الحكام المسلمين بعد نهاية الخلافة الراشدة، يقول المسعودي في مروج الذهب: إن المنصور قدمت له وجبة شهية بعد أن بلغته أنباء سحق حركة البصرة بقيادة إبراهيم بن عبدالله، فقال: أراد إبراهيم أن يحرمني من هذا وأشباهه (مشيرا إلى طعامه الشهي). ويقول الماوردي في «تسهيل النظر» إنه لام أحد الحكام لإفراطه في اللهو، فأجابه الحاكم المذكور: إن الملك إنما يراد للتلذذ به.

ورث هؤلاء الحكام عن سلفهم من الخلفاء والسلاطين، فكرة أن الخليفة هو ظل الله على الأرض. ورغم أنهم لا يجمعون بين الرئاسة الدينية والدنيوية، إلا أنهم جعلوا من عبادة الفرد دينا لدولتهم. فمن الملاحظ أن الحكام المذكورين لا يتصورون أن يثور الناس ضدهم، لذلك كانت ردود فعلهم عنيفة، وكأن المواطنين قد كسروا محرمات أو تابوهات طاعة الحكام. فالمظاهرات والاعتصامات عمل سياسي عادي، بل يومي في بلدان مثل إيطاليا وفرنسا. فالحكام في تلك البلاد بشر، لم يُرفعوا أو يَرفعوا أنفسهم فوق درجة البشر.

من أهم نتائج هذه الانتفاضات الشعبية، أنها كسرت حاجز الخوف، ومعه هالة القداسة والعصمة التي أحاطت بالحكام الطغاة. وهذا يقتضي التأسيس لدول ديمقراطية قائمة على حقوق المواطنة فقط، وفي هذه ضمانة قوية للمشاركة في السلطة، بلا أي احتمال للإقصاء أو العزل للمواطنين، لأي سبب من الأسباب. وهذا هو المقصود بالدولة المدنية، التي اتفقت أو أجمعت حولها كل القوى السياسية، مع احترام حق الاختلاف حول مرجعيات هذه الدولة المدنية.

Email