المصالحة الفلسطينية وعثراتها

ت + ت - الحجم الطبيعي

من الواضح أن عملية المصالحة الفلسطينية والتي ما زالت في مراحلها الأولى، بحاجة فعلية لحماية وصون ورعاية، حيث يقابلها الرفض والعناد الإسرائيلي، وإعلان تل أبيب عن إمكانية قيامها بممارسة ضغوط على حركة فتح والرئيس محمود عباس، ورفضها قبول التعاطي مع حكومة فلسطينية تشارك فيها حركة حماس أو شخصيات مقربة منها، ما لم توافق الحركة على شروط اللجنة الرباعية الدولية المعروفة، وعلى رأسها الاعتراف بـ"حق إسرائيل التاريخي في الوجود» (لاحظوا الاعتراف بحق إسرائيل التاريخي في الوجود، وليس الاعتراف بإسرائيل)، إضافة إلى «نبذ العنف"، في إشارة واضحة لفعل المقاومة الفلسطينية.

ومن المؤكد أيضاً، أن التطبيق العملي لعناوين اتفاق المصالحة وبتفاصيله على أرض الواقع، يحتاج لاشتقاق مواقف شجاعة وعملية، إن كان من قبل حركتي حماس وفتح، أو من قبل باقي القوى والفصائل الفلسطينية التي كانت بدورها جزءاً أساسياً من الاتفاق. كما يحتاج لنوايا طيبة ومخلصة، تقفز عن الحسابات التنظيمية والفئوية الضيقة لهذا الطرف الفصائلي أو ذاك، لصالح المصالحة الوطنية العليا لكل الشعب الفلسطيني، والتي هي في نهاية المطاف الأساس الوطني.

إن المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية، وحتى تنتهي إلى خواتيمها المرجوة، تقتضي تغييب الأجندة الخاصة لكل فصيل أو حركة فلسطينية، وتغييب الحزبية الفصائلية الضيقة، لمصلحة القضية الوطنية الفلسطينية، مع ضرورة إشراك الفعاليات المغيبة في الساحة الفلسطينية، وهو ما يطلق عليه اسم «القوة الصامتة» في المجتمع الفلسطيني، مثل الإعلاميين والمفكرين والتكنوقراط والمؤسسات المستقلة وجمهور المهنيين، وهيئات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية الفلسطينية في الداخل والشتات، والتي هي خارج أي إطارات حزبية أو فصائلية، حيث يمكن من خلال ذلك استكمال تجميع وتثمير كل أوراق القوة لدى الشعب الفلسطيني، بدلاً من استفراد حركتي حماس وفتح ومعهما أي من القوى السياسية الأخرى، برسم صورة المشهد السياسي والقضية الفلسطينية برمتها. كما لا يمكن الحديث عن مصالحة فلسطينية حقيقية دون الوصول إلى قواسم مشتركة، سواء كانت سياسية أو غير سياسية، بما في ذلك في توصيف وتعريف المقاومة أو عملية التسوية ومآلاتها المحتملة.

إن المصالحة المنشودة التي تم توقيعها في القاهرة، يفترض أن تؤسس لحالة جماهيرية فلسطينية موحدة خاصة، وأن تنتفي معها المساعي والطموحات والأغراض التنظيمية الضيقة لهذا التنظيم أو ذاك، وأن تنتفي مخاوف البعض مما يطلقون عليه «المحاصصة» واقتسام الكعكة.

وحتى تستكمل تلك المصالحة مسارها المطلوب، وكي تصل إلى غاياتها المرجوة، لا بد لها من أن تؤسس لمقاربات سياسية بين مختلف الأطراف، خصوصاً بين حركتي حماس وفتح وباقي القوى الفلسطينية، فأي تقارب وطني ومصالحة فلسطينية حقيقية، يجب أن تكون وفق رؤية تؤسس لعقد سياسي جديد بين الفئات والتيارات وكافة الألوان الأيديولوجية في صفوف الشعب الفلسطيني.

وفي هذا المجال، لا بد من القول بأن اتفاق المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية، والحملة الصهيونية المسعورة التي تمت عقب التوقيع عليه، والموقف الأميركي المتحفظ إزاءه، تشكّل حافزاً إضافيا لكل قوى الشعب الفلسطيني، من أجل السير على طريق إنجاح الاتفاق والوصول إلى رواسيه المطلوبة، عبر المعالجة الأمينة والمخلصة لكل ما يعترض الاتفاق من مصاعب على أرض الواقع، خصوصاً منها المصاعب والعراقيل التي قد تضعها سلطات الاحتلال، من نمط التهديد بتوقيف الأموال الفلسطينية المستحقة عن ضرائب البضائع الواردة للضفة الغربية وقطاع غزة، أو استمرار اعتقال عدد من أعضاء المجلس التشريعي، أو القيام باعتقال آخرين ومنع غيرهم من التنقل، لتعطيل عمل المجلس التشريعي وشل جلساته.

لقد فتحت المصالحة الفلسطينية الأبواب على مصاريعها لتوحيد الأداء والفعل السياسي الفلسطيني، على كل مستوياته، كما فتحت الأبواب أمام إزاحة التحفظات الدولية، خصوصاً الغربية منها، تجاه بعض القوى الفلسطينية، ومنها حركة حماس التي تمثل جزءاً أساسياً من النسيج الوطني الفلسطيني، كما كرر أبو مازن أكثر من مرة خلال الأسابيع الأخيرة.

إن مستقبل اتفاق المصالحة بيد القوى الفلسطينية، وتحديداً حركتي حماس وفتح، فمع كل المصاعب التي قد تنتج عند الخوض في التفاصيل، فإن عملية المصالحة، وترجمة الاتفاق إلى واقع على الأرض، أمر يحتاج إلى نوايا سليمة وإلى إرادات حازمة، وعندئذ لن تعيقه أي ملفات إشكالية.

وبالطبع، فإن الحديث عن توافر الإرادات والنوايا السليمة لدى قطبي المعادلة الفلسطينية، لا يعني أن الأمور المتعلقة بملفات المصالحة مجتمعة، ستكون سلسة سلاسة تامة عند النظر فيها، فهناك بعض المواضيع التي تحمل في طياتها قدراً كبيراً من الإشكاليات الموضوعية وغير الموضوعية، مثل مسألة إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وضرورة انضواء حركتي حماس والجهاد الإسلامي في عضويتها، إضافة لحل مشكلة بعض التنظيمات الفلسطينية التي تحمل عناوين واحدة بقيادتين مختلفتين، كجبهة النضال الشعبي الفلسطيني وجبهة التحرير الفلسطيني، وهما فصيلان من فصائل المنظمة، وتضاف لهما مشكلة تنظيم حركة فتح- الانتفاضة بقيادة العقيد أبو موسى، والحزب الشيوعي الفلسطيني، وهما تنظيمان فلسطينيان خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية.

ويذكر هنا أن منظمة التحرير الفلسطينية تتشكل في الوقت الراهن من ائتلاف تقوده حركة فتح، ويضم القوى والفصائل التالية: حركة فتح، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الجبهة الشعبية- القيادة العامة (بقيادة أحمد جبريل، لكنها تقاطع أعمال المنظمة)، طلائع حرب التحرير الشعبية- قوات الصاعقة (تقاطع أعمال المنظمة)، جبهة التحرير الفلسطينية، جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، حزب الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني (فدا)، حزب الشعب الفلسطيني، جبهة التحرير العربية، الجبهة العربية الفلسطينية، الجبهة الديمقراطية.

لقد أبرزت المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية في واحد من تجلياتها، ومن خلال الدور المصري المشهود في رعايتها بعد التحولات الهامة التي حدثت في مصر، أبرزت أهمية العمق العربي بالنسبة للقضية الفلسطينية، فهي قضية لا تخص الفلسطينيين وحدهم، بل هي قضية عربية بامتياز، كما هي في عقول وضمائر وأفئدة الناس في كل العالم العربي، كما هي قضية إسلامية لها عمقها الإسلامي الأوسع من الدائرة العربية. ومن هنا أهمية تكثيف الجهود لإعادة الاعتبار لهذين البعدين؛ العربي والإسلامي، للقضية الفلسطينية، خصوصاً على ضوء التحولات العميقة الجارية في البيئة الإقليمية العربية المحيطة، فضلاً عن التحولات في البيئة الدولية (الغربية تحديداً)، التي بدأت تبتعد بحدود معينة عن تأييد الموقف الإسرائيلي بالشكل الأعمى الذي اعتدناه.

Email