أزمة أبيي.. منظور مختلف

ت + ت - الحجم الطبيعي

برزت أزمة أبيي مرة أخرى إلى السطح، وهذه المرة بطريقة أشد تفجرا وخطورة. وجاءت الأحداث والبلاد على بعد أيام قليلة من استحقاق تاريخي كبير، هو قيام دولة مستقلة في جنوب السودان. وفي نفس الوقت تتصاعد التطورات الإقليمية ضمن ما يسمى «الربيع العربي»، خاصة في ليبيا واليمن وسوريا. فهل جاء دخول الجيش السوداني إلى أبيي، أو ما تصفه الحركة الشعبية بالاحتلال، في الوقت المناسب؟

لقد رأى البعض في الأمر فعلا استباقيا يصرف السودانيين إلى أجواء مختلفة تماما، يكون شعارها: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة! وترفع الأقلام وتجف الصحف، وسوف يقع أي حديث عن الإصلاحات والتحول الديمقراطي، تحت طائلة الخيانة العظمى، فهذه أفعال ومطالب انصرافية حين تكون البلاد في حالة حرب، والبعض يدفعون دماءهم فداء للوطن. وهي في حقيقة الأمر مناورات غالية الثمن، وصراع سلطة بأدوات أخرى.

ومهما كانت الدوافع، فنحن أمام حدث خطير سيئ التوقيت. فقد تزامن حادث أبيي مع زيارة هامة لوفد من مجلس الأمن ضم ممثلين لكل الدول دائمة العضوية، جاء ليناقش مع الخرطوم كثيرا من القضايا الحيوية. ورفض علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية ـــــ وهو الوجه الذي تعودت عليه الوفود الأجنبية ـ لقاءه بلا عذر، كما اعتذر علي كرتي وزير الخارجية، بدعوى المرض. وفهم الوفد دواعي رد الفعل هذا، وجاء تعليق جاك آرو، السفير الفرنسي ورئيس مجلس الأمن في دورته الحالية: «آسف، لأنها فرصة عظيمة ضيعتها الحكومة لتوصيل وجهة نظرها حول الأزمة الراهنة». ويرجع البعض «المقاطعة» السودانية، إلى عدم إدراج الرئيس البشير في برنامج زيارة الوفد.

يبدو أن النظام السوداني يريد تصعيد أزمة أبيي إلى أقصى مدى ممكن، وأن يقلب الطاولة في وجه الجميع ـ داخليا وخارجيا ـ وأن يباغتهم حتى يرتب أوراقه بالطريقة التي يريدها. وجاء رد الفعل الأميركي سريعا على لسان سوزان رايس، المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة: «إن انتهاك الخرطوم الواضح لاتفاقية السلام الموقعة عام 2005، يجعل الحل أكثر صعوبة، ليس فقط لأبيي، ولكن لموضوعات أخرى معلقة» (28/5/2011). ويمكن أن يفهم من هذا التصريح أن كل جهود النظام لإرضاء الولايات المتحدة الأميركية، قد ضاعت هباء منثورا. فقد كان همّ الأميركيين الدائم هو اتفاقية السلام الشامل، والتي تقوم عليها «جزرة» العلاقات بين البلدين، وحين يتحدثون عن «الانتهاك الواضح» فقد انهار كل شيء. فهم لا يتحدثون عن عدوان أو تبادل اعتداءات بين الطرفين، بل وصلوا مباشرة إلى جوهر الاتفاقية، لأن أصعب المراحل في الاتفاقية تم إنجازها ووصلنا إلى آخر خطوة، ولا يحتمل الأمر أي مغامرات واستفزازات. ودخلت حكومة الجنوب والحركة الشعبية على الخط، وطالبتا بتدخل مجلس الأمن وإنفاذ الفصل السابع في ردع نظام الخرطوم، وهذا ما لم يضعه حزب المؤتمر الوطني الحاكم في حسبانه.

من الواضح أن النظام في الشمال، يعمل على تخريب عملية الانفصال في الدقائق الأخيرة، ويبدو نادما الآن على التوقيع في نيفاشا من الأساس. فقد كانت الضغوط شديدة وتمت محاصرة النظام دوليا. فمن ناحية، لم يكن لا نظام الخرطوم ولا الحركة الشعبية قادرين على الاستمرار في الحرب، ولكن النظام كان يسعى لرفع سقف مطالبه وأن يكون الثمن مجزيا، ولم يضع في اعتباره أن تصل النتيجة للانفصال، رغم أنه لم يقم بأي جهد لجعل الوحدة جاذبة، بل فعل العكس تماما. فقد أمضى سنوات الاتفاقية الست في مناوشات وملاسنات، ولم يكن أيّ من الشريكين على مستوى المسؤولية، وأضاعا معا وقتا ثمينا من عمر الشعب السوداني.

وقد شرع المؤتمر الوطني الحاكم في تصعيب الأمور ووضع المعوقات أمام دولة الجنوب القادمة، مستغلين فشل الحركة الشعبية طوال ست سنوات، في إحداث تنمية وتطور اقتصادي ـ اجتماعي في الجنوب. فقد ساهم نظام الخرطوم في تفاقم الأوضاع الاقتصادية، حين أوقف القوافل التجارية من الشمال إلى الجنوب، ما أحدث شحا واضحا في السلع التموينية، علما بأن الجنوب مهدد أصلا بمجاعة، حسب تقارير منظمة الغذاء والزراعة الدولية (الفاو). وقد تسبب دخول الجيش السوداني إلى أبيي في نزوح عشرات الآلاف من المواطنين، وهذا عبء مرهق على حكومة الجنوب في الوقت الراهن.

فكرت في اتجاه مختلف، حين حدثت الأزمة والزيارة، وتساءلت هل كان كل الذي يحدث الآن حتميا لو أدرنا دولتنا الوطنية المستقلة منذ عام 1956 بعقلانية ووطنية؟ خجلت من نفسي حقيقة، حين رأيت وفد قبيلة المسيرية بزهو أمام وفد مجلس الأمن للتفاوض أو يقدم وجهة نظره. أين الدولة القومية التي يفترض فيها صهر كل هذه القبائل في وطن واحد تحت صفة سودانيين؟ وبعد 55 عاما، كيف ينظر لنا العالم ونحن ما زلنا مقسمين إلى مسيرية ودينكا نقوك؟ ياله من عار وطني عظيم! وهذه المسؤولية لا يتحملها النظام الحالي وحده، ولكنه صاحب الصوت الأعلى والادعاءات الكبرى. فالفشل يبدأ من آباء الحركة الوطنية وكل الحكومات المتعاقبة: مدنية وعسكرية، إسلامية واشتراكية وليبرالية.

لقد كان من المفترض أن تكون الآن المسيرية والدينكا، مجرد ظواهر تاريخية في سودان جديد، مثل قبائل الهون والقوط والوندال في أوروبا قبل نشوء الدولة الوطنية وصعود البرجوازية. لذلك، فقضية أبيي باطلة، لأنها قامت على باطل، وهو تحكيم لاهاي. تصوروا دولة مستقلة ذات سيادة، تسمح لقبيلتين تحت إدارتها وسيادتها بالذهاب إلى لاهاي لحل نزاع داخلي! فهو ليس خلافا بين دولتين مستقلتين، إنها بدعة في القانون الدولي. ولكن قبل ذلك، دليل دامغ على الفشل والعجز والتنازل عن السيادة الوطنية.

سؤال آخر مرتبط بنجاح الدولة الوطنية؛ هل يعقل أن يظل بعض القبائل السودانية بعد 55 عاما من الاستقلال، تترحل بحثا عن الماء والكلأ؟ اين مشاريع الحفائر التي نوقشت في البرلمان الأول ضمن مطالب النواب؟ وأين مشاريع محاربة العطش التي وعد بها «اب عاج»؟ كان من الممكن أن تكون مناطق المسيرية بلاد مراعٍ مستقرة ومروج مثل تلك التي نراها في أستراليا وكندا والدنمارك، لو لم يكن في السودان من نهبوا طريق الإنقاذ الغربي أو من تبلغ حوافزه 165 مليونا.

كانت التنمية هي الفريضة الغائبة في السودان منذ الاستقلال، وكل الذي يدور الآن هي معارك هامشية، فالسؤال؛ كيف تستطيع المسيرية والدينكا جميعا والزغاوة والفوروالبجا والمناصير معا، بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التي تحل تلقائيا كل مشاكلهم في التخلف والقهر؟!

Email