المصالحة الفلسطينية بالعين الإسرائيلية

ت + ت - الحجم الطبيعي

كما كان متوقعاً، فقد لاقت المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية رفضاً إسرائيلياً صارخاً من ائتلاف حكومة نتنياهو، ومن عموم القوى في الخريطة السياسية الإسرائيلية تقريباً، باستثناء مجموعة صغيرة من النخب الإسرائيلية السياسية والأمنية والعسكرية السابقة، التي بدأت منذ فترة تنظر إلى الأمور بعين مغايرة لما اعتادت عليه غالبية الإسرائيليين.

كما لاقت المصالحة الفلسطينية تحفظاً أميركياً ملحوظاً، وحذراً من بعض دول الغرب الأوروبي، ليس بسبب الخوف المباشر من نتائج هكذا مصالحة على عملية التسوية المختلة فقط (والمعطلة أصلاً) في المنطقة، بل خشية من النتائج المستقبلية لعملية المصالحة على مجمل مسار العملية السياسية، وعلى مضمون المفاوضات ذاتها، وتدعيمها للحالة الفلسطينية، وهي الحالة التي بقيت ممزقة ومشتتة لسنوات عدة، فيما استثمرت الدولة العبرية الصهيونية حالة الانقسام برفع وتيرة التهويد والتشدد السياسي، مستغلة الظروف الصعبة التي ولدتها عملية الانقسام الفلسطيني المؤسف، وزادت عليها بإطباق الحصار الخانق على قطاع غزة وشل حياة الناس هناك.

وعليه، فإن لغة التحريض الإسرائيلية انطلقت على الفور، طاعنة ومحذرة من عملية المصالحة الفلسطينية، فاستخدمت تل أبيب لغة تحريض وتأليب الغرب على المصالحة، عبر الاتصالات مع الولايات المتحدة واللجنة الرباعية، بموازاة ضغوط باتت تمارسها إسرائيل الآن مباشرة على السلطة الفلسطينية.

فقد أطلق بنيامين نتنياهو تصريحاً أولياً فور إعلان التوقيع على المصالحة الفلسطينية في القاهرة، قال فيه إن «اتفاق حركتي «فتح» و«حماس» ينبغي أن يقلق العالم وكافة الراغبين في السلام، لا إسرائيل فحسب»، محاولاً إقناع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بموقفه المعادي لحركة حماس، وساعياً نحو إزالة المطلب المطروح لإعلان قيام الدولة الفلسطينية، من أجندة دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر القادم 2011. في حين انضم رئيس الدولة العبرية شمعون بيريز إلى التحريض على المصالحة، مخيّراً الفلسطينيين بين حركة حماس والدولة الفلسطينية. واستتبعت حكومة نتنياهو موقفها إياه باستخدام لغة الترغيب والترهيب في وجه الفلسطينيين، بما في ذلك وقف تسليم الأموال المجباة من الضرائب، التي يفترض أن تعود للشعب الفلسطيني.

من هنا، فإن الرد الإسرائيلي الهستيري على عملية الوئام والمصالحة التي تمت في البيت الفلسطيني، يكشف الوجه الحقيقي لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، كما يكشف عن المديات الواسعة التي بلغها نفوذ وسطوة تيارات اليمين الإسرائيلي، بشقيه التوراتي والقومي العقائدي، ومعه بعض كتل ما يسمى «اليسار الإسرائيلي»، وتغوله داخل المجتمع اليهودي على أرض فلسطين التاريخية. فقد بدؤوا بإطلاق صيحات التحشيد والتجييش الأعمى داخل إسرائيل، على كلمتي محمود عباس وخالد مشعل في حفل المصالحة في القاهرة، خصوصاً عند إشارة كل منهما لحق العودة باعتباره ركناً أساسياً من أركان المشروع الوطني الفلسطيني، معتبرين أن الدولة الفلسطينية التي نادى بها مشعل وعباس في القاهرة، ليست «تطلعاً صادقاً، حقيقياً ونهائياً» لدى الفلسطينيين، بل هناك الرغبة في «الثأر، وتطبيق حق العودة وعودة كل واحد إلى بيته في حيفا، في اللد ...».

في هذه الأثناء، وحتى نقلب ونرى الصورة من جوانبها كافة، فإن وثيقة شبه رسمية، تم تسريبها عن دائرة التخطيط في وزارة الخارجية الإسرائيلية، وهي الدائرة التي تضم دبلوماسيين مهنيين إسرائيليين مخضرمين في العمل الدبلوماسي، وهي مسؤولة عن بلورة التوصيات للسياسة الخارجية للحكومة الإسرائيلية، وقد نشرتها صحيفة «هآرتس» قبل أيام، تحدثت عن اتفاق المصالحة في البيت الفلسطيني بطريقة مغايرة لما هو سائد عموماً داخل إسرائيل، حين قالت إن «اتفاق المصالحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس، من الممكن أن يقدم فرصة استراتيجية لخلق تغيير حقيقي في السياق الفلسطيني»، في إشارة إلى إمكانية انخراط حركة حماس وعموم القوى الفلسطينية من التيار القومي الراديكالي، كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرها من القوى، في عملية التسوية، وبالتالي في نزع «فتيل الانفجار القادم في أي لحظة» على حد تعبير الوثيقة. بل واعتبرت تلك الوثيقة التي أعدتها دائرة التخطيط السياسي في الخارجية الإسرائيلية، أن «الخطوة الفلسطينية التي تمت من خلال عملية المصالحة بين حركتي فتح وحماس، ليست فقط خطراً أمنياً كما يشاع، وإنما هي فرصة استراتيجية لإجراء تغيير حقيقي في الحلبة الفلسطينية، وهذا التغيير من شأنه أن يخدم التسوية في المدى البعيد». وبالطبع فإن الإشارة في لغة الوثيقة، تكمن هنا في ما يمكن إحداثه من تغيير في منحى وسياسات ومواقف حركة حماس تجاه الصراع الفلسطيني والعربي مع إسرائيل.

وتوصي الوثيقة في استخلاصاتها النهائية، حكومة نتنياهو بإحداث واجتراح «مقاربة بناءة من شأنها أن تفاقم مأزق الفلسطينيين بشأن برنامج حكومة الوحدة المتوقع قيامها، وبشأن عدم استعداد حركة حماس للاعتراف بإسرائيل»، وبالتالي في رمي الكرة في الملعب الفلسطيني أمام العالم بأسره، دون تحميل إسرائيل تبعات ذلك الموقف، وإبرازه باعتباره استعصاء فلسطينياً محضاً لا علاقة لإسرائيل به.

إن مجموع القوى الفلسطينية، وخصوصاً منها حركتي حماس وفتح، استوعبت على الأرجح دروس المرحلة العربية الساخنة، والحراكات الدائرة في عالمنا العربي، حيث تموج الخريطة العربية من أقصاها إلى أقصاها، مع ارتفاع أصوات الناس في الشارع المطالبة بالحرية والكرامة والوحدة، ومعهما بالقلب شباب فلسطين الذين أطلقوا حملات وصيحات «الشعب يريد إنهاء الانقسام»، فأقدمت كل منهما على الاقتراب لمنتصف الطريق وإلى نقطة التقاطع الوطنية المشتركة، وهو أمر إيجابي جداً عل كل حال.

لكن إسرائيل، وكما هو متوقع بطبيعة الحال، ستبذل كل ما في وسعها لإفشال المصالحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس وعموم القوى الفلسطينية، وستعمل على الأرض لخلق المعيقات التي تمنع تطبيق التفاهمات الوحدوية الفلسطينية ما بين قطاع غزة والضفة الغربية.

ومع ذلك فإن الموقف الإسرائيلي ليس قدر الفلسطينيين، ومحاولات إسرائيل لإفشال المصالحة يجب صدها وقتلها في مهدها، وهو ما يتطلب من الفلسطينيين الحذر والانتباه، وتجنب الوقوع في «إشكاليات ومعيقات واستعصاءات» التفاصيل التي قد تقع مع ترجمة واقع التفاهمات الوحدوية على الأرض، والعمل على حل أي تعارض بروح خلاقة، تسهم في الحفاظ على ما تم التوصل إليه، لجهة إعادة بناء البيت الفلسطيني وتمتينه.

Email