المصالحة الفلسطينية في خطوتها الأولى

ت + ت - الحجم الطبيعي

حسناً، فقد جاءت المصالحة الفلسطينية، والموقعة بأحرفها الأولى بين حركتي حماس وفتح، لتشكل بداية طيبة لإنهاء هذا الملف المقيت من الانقسام الداخلي، الذي أكل الأخضر قبل اليابس في الساحة الفلسطينية، وقد طال واستطال لسنوات خلت، فيما المشروع التوسعي الاستيطاني التهويدي الصهيوني، واصل ويواصل صعوده على جسد الأرض الفلسطينية المحتلة عام ‬1967، خاصة في منطقة القدس. ومن نافل القول، أن التوقيع على المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية بأحرفها الأولى، ما كان ليأتي لولا تلك التطورات الهائلة التي وقعت وما زالت تتفاعل فلسطينياً وإقليميا، وكان على رأسها إسقاط ثورة شباب مصر للنظام السابق، ونهاية دور رئيس المخابرات العامة المصرية الذي نفذ تلك السياسة، والذي مثّل العثرة الكبرى التي اعترضت المصالحة الوطنية الفلسطينية الحقيقية، القائمة على أساس برنامج وطني توافقي فلسطيني.

ومما ساعد على التلاقي الفلسطيني الفتحاوي ــ الحمساوي، سيادة منطق التشدد الإسرائيلي، ورفض الدولة العبرية تقديم أي حل منطقي للقضية الفلسطينية، استناداً للشرعية الدولية وقراراتها ذات الصلة، والإقرار ولو بالحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني، إضافة للانحياز الأميركي الكامل للرؤية الإسرائيلية للحل، خاصة مع بدء العد التنازلي للولاية الثانية المفترضة للرئيس الأميركي باراك أوباما. يضاف إلى ذلك حراك الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، والمنادي بتحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام.

إن التحولات في البيئة الإقليمية العربية، كانت وما زالت عاملاً حاسماً في الإسراع بإنجاز المصالحة الفلسطينية في خطواتها الأولى، واستتباعاً في المرحلة التالية بعد توقيعها، خصوصاً ما جرى في مصر. فغياب مبارك عن المشهد السياسي حرر مصر العربية من عبء التحالفات والإملاءات الخارجية، ومنحها مساحة كبيرة من الثقة لدى الطرفين الفلسطينيين المعنيين أكثر من غيرهما بالمصالحة الوطنية، ودفعهما في اتجاه توقيع المصالحة، وبالتالي عودة مصر للعب دورها الرئيسي المنشود في الساحة الفلسطينية وفي ميادين العمل القومي العربي.

لقد دفعت التحولات الإقليمية الأخيرة، نحو إلغاء وكسر الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها النظام السابق في مصر، في إدارته لملف المصالحة الفلسطينية. فقد تعاطت إدارة الرئيس المخلوع مع موضوع المصالحة الفلسطينية برمته، بطريقة «أمنية مخابراتية»، لا تعرف للسياسة العاقلة منطقاً، وبعيداً عن رجالات السياسة أو أي من أركان الخارجية المصرية على سبيل المثال. إن النظام السابق في مصر، كان يرى في ملف المصالحة الفلسطينية وفي عملية الحوار الفلسطيني الداخلي، أمراً محصوراً بين يديه وحده، و«بوكالة حصرية» لا تقبل المشاركة من أي طرف عربي أو حتى دولي صديق، وإفشال الجهود التي تقدمت بها عدة أطراف لتحقيق المصالحة، ومن بين تلك الجهود كانت المساعي التركية التي بذلتها أنقرة على خط الحوار والتواصل بين حركتي فتح وحماس، من أجل تقريب وجهات النظر بينهما وصولاً إلى تحقيق المصالحة المنشودة. وعليه، فإن التحولات الإقليمية التي وقعت، خصوصاً في مصر، لعبت دوراً مهماً في إنضاج الحالة الفلسطينية في اتجاه المصالحة، وولوج حركتي فتح وحماس لمسار العمل المشترك من أجل إعادة ترتيب الساحة الفلسطينية، إلى جانب كل القوى الفلسطينية ذات الحضور والفعل والتأثير، كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية/ القيادة العامة.

من هنا، فإن التحول في الموقف المصري برز واضحاً في مضمون وآلية التعاطي مع عملية المصالحة الفلسطينية، وعدم الالتفات إلى الشروط الأميركية والإسرائيلية التي أعيد طرحها من قبل الولايات المتحدة بعد توقيع اتفاق المصالحة، بشأن شروط اللجنة الرباعية، وعلى رأسها الاعتراف بـ«حق إسرائيل» في الوجود (لاحظوا؛ الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، وليس الاعتراف بإسرائيل)، والاتفاقيات الموقعة سابقاً. كما برز في ارتفاع وتيرة الموقف المصري النقدي لسياسات الدولة العبرية الصهيونية، وفي إعلان وزير الخارجية المصري عن مصادقة مصر على فتح معبر رفح بشكل كامل لعبور البضائع والأشخاص، خلال أسبوعين. ومع هذا، فإن عملية المصالحة الفلسطينية، والتي ما زالت في مراحلها الأولى، بحاجة فعلية لحماية وصون ولعناية خاصة، حيث يقابلها الرفض والعناد الإسرائيلي، وإعلان تل أبيب عن إمكانية قيامها بممارسة ضغوط على حركة فتح والرئيس محمود عباس، ورفضها إشراك حركة حماس في أية حكومة فلسطينية ما لم توافق على شروط اللجنة الرباعية الدولية المعروفة، وعلى رأسها «نبذ العنف» والاعتراف بـ«حق إسرائيل في الوجود».

إن المصالحة الحقيقية هي الطريق لإعادة تجميع وترتيب أوراق القوة الفلسطينية، ومن أجل إعادة النظر في المنهجية السياسية القائمة، ورد الاعتبار إلى العمق العربي والإسلامي لقضية فلسطين، على ضوء التحولات العميقة الجارية في البيئة الإقليمية المحيطة. فالمصالحة المنشودة، يفترض أن تؤسس لحالة جماهيرية فلسطينية موحدة خاصة، وأن تنتفي معها المساعي والطموحات والأغراض التنظيمية الضيقة لهذا التنظيم أو ذاك، وأن تنتفي مخاوف البعض مما يطلقون عليه «المحاصصة» واقتسام الكعكة. وحتى تستكمل تلك المصالحة الفلسطينية مسارها المطلوب، وكي تصل إلى غاياتها المرجوة، لا بد لها من أن تؤسس لمقاربات سياسية بين مختلف الأطراف، خصوصاً بين حركتي حماس وفتح وباقي القوى الفلسطينية. فأي تقارب وطني ومصالحة فلسطينية حقيقية، يجب أن يكونا وفق رؤية تؤسس لعقد سياسي جديد بين فئات وتيارات وقوى الشعب الفلسطيني وتجمعاته، على أساس استمرار النضال والمقاومة بكل أشكالها الممكنة، وإعادة الاعتبار لحركة التحرر الفلسطينية، ولمشروعها الوطني والقومي والإنساني الديمقراطي.

Email