مصر ومرحلة الخوف غير المشروع

ت + ت - الحجم الطبيعي

من البدهي القول إن اكتمال أي ثورة يتم من خلال مرحلتين، تتمثل الأولى في هدم النظام القديم، كما أسمته لنا الثورة الفرنسية. والثانية في بناء أو تأسيس الجديد أو البديل. وغالبا ما يرى الكثيرون أن المرحلة الثانية هي الأصعب والأكثر تعقيدا، ولكن الناس في غمرة فرحة الانتصار على القديم مع الشعور بالقوة والقدرة، يقللون من صعوبات المرحلة الثانية. ويتحدث الثوار عن المرحلة الأولى ـ أثناء حماسهم ـ بصفات تبدو وكأنها مسألة لغة، ولكن للأمر آثارا أبعد من ذلك. فالبعض يقول: «هدم النظام» وآخرون: «إزالة النظام». ففي الهدم لا يستبعد أن تظل هناك بقايا من القديم، ولكن الإزالة تعني ضمنا أن يملأ الفراغ ببديل. وهذا يعني دمج المرحلتين في عملية واحدة، وهذا هو أحسن وضع ثوري ممكن، لأن الحماس والاندفاع ما زالا في عنفوانهما. وفي الفاصل أو «الاستراحة» بين المرحلتين، يحدث كثير من المشكلات والصعوبات، وهي فترة دقيقة وحساسة، وقد يؤدي أي خطأ أو غفلة إلى ضياع الثورة أو إلى الانتكاسة. ففي هذه الفترة ينشط ثوار «الساعة الخامسة والعشرين»، ويركب الموجة الكثير من المترددين والانتهازيين الذين ينتظرون حتى لحظة التأكد من نجاح الثورة.

يمكن أن نطلق على الثورة المصرية اسم «الثورة الناقصة»، رغم قوتها وندرتها وإبداعها. فقد بدت وكأنها لم تتوقع هذا الانتصار السريع، رغم أن شعارات الرحيل والتنحي رفعت بحماس وقبل أيام. وحين تنحى حسني مبارك وعين لأول مرة نائبا ووريثا غير ابنه جمال، رأى كثيرون في هذه الخطوة نجاحا كاملا للثورة، ولذلك سارعوا في قبول دعوة الحوار من نائب الرئيس المكلف برئاسة الدولة، وذهبت أحزاب وقيادات مجربة ورصينة، مثل رفعت السعيد والبدوي من حزبي التجمع الوطني الديمقراطي والوفد. مع ملاحظة عدم حدوث تغيير وزاري واستمرار وزراء مبارك في تسيير الأمور. وتردد آخرون في اللحاق بالمبادرة، خشية أن يفوتها قطار التغيير. ولكن هذا التردد كان ـ للمفارقة ـ سببا في تغيير المسار، فقد بدأت قلة تتساءل؛ هل هذا هو سقف الثورة؟ وهل طموحنا سقوط الرئيس أم تغيير النظام؟ فكانت الإطاحة باللواء عمر سليمان.

ولكن لم يتغير النظام بمجيء أحمد شفيق، وخرج الثوار مجددا مطالبين برحيله. وبالفعل جاءت أخيرا حكومة «شرف» لتمثل هدف الثورة الأصلي: التغيير، ولكن بعد تجريب أضاع كثيرا من الوقت. وبحركة رمزية انطلقت شرعية هذه من ميدان التحرير وليس من الرئاسة، واعتبر البعض هذه الرمزية قطيعة بائنة مع الماضي والنظام القديم، واستهلال المرحلة الثانية لبناء النظام الجديد الذي هو بالضرورة ديمقراطي. وهنا يبدأ أيضا تأسيس النظام الذي يبدو من الواضح أن الجميع لا يملكون تصورا أو برنامجا واضحا له. وبالتالي قد يقع الثوار في لعبة التجربة والخطأ، وقد ينطلق دور القوى القادرة على المناورة وأصحاب نظرية «لا أخلاق في السياسة»، وأن القيمة الوحيدة هي النجاح أو المكسب. ولم ينتظر المتربصون طويلا، ودخل المشتاقون للسلطة في الخط، وهم لا يهتمون بالديمقراطية إلا كوسيلة للتبادل السلمي للسلطة، لذلك نلاحظ هذا التكالب على الشروط الشكلية للديمقراطية أو بلغة أدق للبرلمانية.

السبت الماضي (‬19 مارس) مارس شباب التحرير لأول مرة طقسا ديمقراطيا: التصويت في استفتاء التعديلات الدستورية. وقد بدأت التجربة مجروحة، لأنها قائمة على الاستقطاب الحاد، وهو لا يبتعد عن عقلية القطيع والتي تسمى «الجماعية»، في حين أن العملية الديمقراطية لا بد لها من قدر من الفردية في الاختيار الذي يبني على الاقتناع. ومن الواضح أن «الإخوان المسلمين» هم الجماعة الوحيدة المنظمة والغنية والمدربة، ولذلك تستطيع لحد كبير تشكيل هذه المرحلة الثانية، بغض النظر عن دورهم في إسقاط مبارك (المرحلة الأولى)، وهم يهرولون إلى التعديلات للتعجيل بالانتخابات. وللمفارقة، كان الحزب الوطني يستخدم فزّاعة «الإخوان المسلمين» باعتبارهم البديل له في حال غيابه. والآن يستخدم الإخوان المسلمون فزّاعة الحزب الوطني، باعتبار أن تأخير الانتخابات يعني عودة الحزب، خاصة وأنه لم تتخذ إجراءات رادعة تضمن عدم عودته للحياة السياسية. ويحاول «الإخوان المسلمون» جعل التاريخ يعيد نفسه، فقد كانوا هم الجماعة «المحظورة» في الماضي، ويريدون الآن للحزب الوطني أن يحتل محلهم في الحظر. والإخوان الآن في حالة هجوم بعد أن تجاوزوا تهديد منع قيام أحزاب على أسس دينية، ولكنهم دخلوا في الاختبار الحقيقي حول إمكانية أن يكونوا حزبا سياسيا مدنيا.

ولا بد من التوقف عند وضعية «الإخوان المسلمين»، لأنهم حقيقة الرقم الحاسم في المرحلة الثانية: التأسيس. وهم الوحيدون أصحاب مشروع محدد: الدولة الإسلامية. فهل في إمكانهم تحقيق هذه اليوتوبيا أو الحلم مع تجنب الأخطاء التي حدثت في السودان وباكستان ضياء الحق وأفغانستان طالبان؟

مصر بلد مركب واستراتيجي ورائد وطليعي ولا يحكم إلا ديمقراطيا، وبالتالي استيعاب كل التنوعات الموجودة وكل تطلعات التحديث واللحاق بالعصر. ويحاول الإخوان طمأنة المواطنين بشتى السبل، بدءا من الاسم رغم مخزونه التاريخي والنفسي، فقد تنازلوا عن الاسم الرمزي والدال، ومن حيث المضمون فقد قاموا بمراجعات أساسية. والإخوان عليهم مسؤولية كبيرة أكثر من غيرهم في المساهمة في حل المسألة الطائفية، وفي هذا اختبار صعب لحقيقة مفهوم الديمقراطية وحدودها بين الإخوان، فهي تتعدى الانتحابات واالبرلمان وتعدد الأحزاب.

صار المصريون ـ بسبب المشاكل السياسية سابقة الذكر ـ يفتتحون أي نقاش سياسي بالقول: «ربك يستر الواحد بقه خايف». وهو شعور صادق وحقيقي، لأن الثورة المضادة في مصر تطل بقوة على المشهد السياسي، ولها رصيد كامن ضخم. فأين ستذهب الأعداد الهائلة التي كانت منتفعة من النظام؟ وهل ستتنازل بهذه السهولة عن الامتيازات والمكانة التي تمتعت بها لعقود؟ وهل سيرضى المئات أو الألوف من الذين فصلوا من الشرطة والأمن عن أي نظام ديمقراطي، خاصة وقد ارتبطت الكلمة لديهم بالإهانة والتشريد؟ ولا ننسى رجال الأعمال وقد أحاطت بهم جميعا الشبهات. كل هؤلاء يمثلون قنابل موقوتة قد تنفجر مع أول أزمة تواجه البلاد، وللأسف الأزمة جاهزة وهي: الاقتصاد. والانتفاضة الشعبية أوصلت مصر إلى حافة الإفلاس، إن لم تبدأ خطة إسعافية سريعة وحاسمة، وهي صعبة للغاية مع المطالب الفئوية التي لا تنقطع ولا يقدر أصحابها على الانتظار. والمطلوب تحويل الزخم الثوري إلى سلوك وقيم وطنية، تؤمن بالتضحية وأن الوطن فوق الجميع بلا عنصرية.

Email