السودانيون صدمة الانفصال والتغيير

ت + ت - الحجم الطبيعي

أصيب السودانيون عموماً ـــ حكومة ومعارضة وشعبا ـــ بصدمة ودهشة وحيرة، بسبب الأحداث المتسارعة الأخيرة داخليا وإقليميا، إذ لم يكن السودانيون يتوقعون هذا الزلزال الكاسح. ولقد كان كل الذي حدث، سواء في الجنوب أو في المنطقة العربية، بمثابة المفاجأة المباغتة تماما، إذ لم تكن مقدمات التطورات توحي بهذه النتائج، على الأقل في مثل هذا الوقت الوجيز.

وقد تزامنت نتائج التصويت في الاستفتاء لصالح الانفصال، مع اندلاع الانتفاضات الشعبية العربية. لذلك، لم يجد السودانيون الفرصة الكافية للتأمل والتحليل الصحيح. فالنظام حاول إعطاء الانطباع بأن ما حدث عادي، وليس فيه جديد يثير الانزعاج. وكانت النتيجة أن أجهزة الإعلام لم تهتم أبداً، أما الناس العاديون فقد جاءتهم الأحداث مع الزيادات الكبيرة في أسعار السلع الغذائية فانشغلوا عن الأحداث. وهذا الموقف المتجاهل من النظام، واللامبالي من قبل المعارضة والجماهير، يحتاج إلى تحليل أعمق، فالأحداث عظيمة، ولا بد من وجود خلل ما وراء هذه المواقف. كيف استقبل السودانيين الشماليون، بقطاعاتهم المختلفة، قرار الانفصال؟ كان من الواجب أن ينصب شعب فقد ثلث أراضيه ومواطنيه، سرادق العزاء وأن يصيبه الحزن والألم، ولكن الواقع كان عكس ذلك تماما، فقد كانت القنوات الفضائية الرسمية تبث الأغاني العاطفية الساخنة، والقناة الدينية تعج بالمدائح النبوية المصحوبة بالغيتار والأورغن. وهذا السلوك يمكن أن يكون له العديد من التفسيرات في الوضع السوداني الراهن، فقد كان هناك سوء تقدير غير معلن بين الشماليين، يقول ان الجنوبيين لن يعيشوا من دوننا نحن الشماليين، رغم الكراهية التي يعبرون عنها أحيانا، فهي مفتعلة حسب الشماليين. فالجنوبيون ـــ حسب هذا الرأي ـــ عاشوا عالة على الشمال واستمرأوا هذه العلاقة اللذيذة والمريحة. ويردد الشماليون دائما أنهم «دلعوا» الجنوبيين. وكان كثير من الشماليين يرى في الأصوات العالية الداعية للانفصال قبل الاستفتاء، مجرد مناورات أو ابتزاز لرفع سقف المطالب والحصول على تنازلات أكثر.

ولذلك صدموا كثيرا حين جاءت النتيجة أعلى من ‬98٪ من الأصوات. وتساءل البعض في الصحف: لماذا يكرهوننا لهذه الدرجة؟ ولهؤلاء الحق في مثل هذا التساؤل، لأن هناك تفاعلا على مستويات كثيرة: ثقافية، سياسية، اجتماعية، بدأ ينمو بين الشماليين والجنوبيين، ويلاحظ ذلك في مجال الإبداع من كتابة وفنون وآداب، ولا ننسى قطاع الشمال في الحركة الشعبية لتحرير السودان. أين ذهبت أصوات كل هؤلاء الذين اندمجوا مع الشماليين في نشاطات واهتمامات مشتركة؟ وأين أصوات الذين كانوا ينادون بالسودان الجديد؟ وأخيرا تقبل السودانيين النتيجة على مضض، ولكن كالعادة لا بد من المبررات ومن وسائل الصبر الجميل والسلوان.

عبرت مجموعة، وهي التي تطلق على نفسها اسم «منبر السلام الشامل»، عن فرحة غامرة وذبحت الثيران. وهذا يذكرني بالأحمق الذي جدع أنفه ليغيظ خصمه! وهي تنطلق من مقدمة خاطئة، وهي أنهم مختلفون عنا! ويقصد بذلك اللون والشعر والملامح. ولا أدري من الذي أعلم هذه الجماعة بأن مواطني الدولة الواحدة لا بد أن يكونوا متشابهين ولهم سحنة واحدة؟ وهذه الدعوة تتكرر باستمرار في صحيفتهم «الانتباهة»، حتى تكاد تصل درجة العنصرية والتمييز العرقي. وهي تحتفل بأن السودان أصبح أخيرا متجانسا وصافيا عرقيا. وهذا اتجاه تنامى لأسباب ليست ثقافية أو دينية، وإنما لأسباب اقتصادية كامنة. فالجنوبيون في الشمال صاروا ينافسون في قسمة الثروة والعمل، ومع عملية الانفتاح وتناقص الفرص، عكس المتوقع، صاروا غير مرغوب فيهم.

ومن أسباب عدم الاهتمام بقرار الانفصال أو عدم القلق على المصير، أن البعض يرى القرار مؤقتا أو مجرد نزوة، بمعنى أن الجنوب سيعود بطريقة أو أخرى، مرة ثانية للشمال. فاليساريون على الجانبين يعولون على قيام كونفدرالية بين دولتي الشمال والجنوب قريبا، خاصة وأن الانفصال قد تم بطريقة ناعمة ولم يترك آثارا سيئة في النفوس. ورأي آخر محافظ يعتقد أن الجنوبيين غير مؤهلين لإقامة دولة واستمرارها، لذلك لن تدوم دولتهم وسيعودون إلى الشمال. وفي كل الأحوال يمكن القول ان الانفصال لم يترك رد الفعل العادي تجاه حدث في جسامته.

وقد تجاهل الإعلام السوداني الرسمي تماما مجريات ما حدث في تونس ومصر ثم ليبيا أخيرا. ويعود هذا أيضاً للصدمة أو المفاجأة أو خوف العدوى والتأثير. أما بالنسبة لمصر وليبيا، فالصدمة ذات تداعيات بعيدة الأثر، فقد كان النظام السوداني يرتبط بعلاقة غريبة فعلا مع الأجهزة التي أسقطتها ثورة ‬25 يناير، إذ لم يكن ملف السودان في يد وزارة الخارجية، بل في شوؤن الرئاسة وبالتحديد لدى عمر سليمان، كما أن التجمع الوطني الديمقراطي المعارض كانت صلته مباشرة مع جهاز أمن الدولة. وهكذا وضع السودانيون كل رصيدهم في يد الأجهزة التي أصبحت مجهولة المصير. ولم تعبّر الحكومة عن أي موقف تجاه الأحداث، وتركت حزبها يهنئ الشعب المصري بالحرية والديمقراطية!

وقد كانت مصر ـ مبارك تمثل مصدة جيدة لأي مشكلات مع الولايات المتحدة الأميركية، والنظام السوداني في هذه الفترة الانتقالية وتعقيدات العلاقة مع الجنوب، بالإضافة لمشكلة دارفور المتطاولة، يحتاج بشدة للدور المصري. ولكن الوضع الآن في حالة سيولة، ولا أحد يعرف حتى المصريون أنفسهم، إلى أين تسير الأمور؟

أما الصدمة المزدوجة فقد جاءت مع انتفاضة ليبيا، فقد ظل العقيد القذافي مثل الحاوي يلعب بعدد من الكرات في آن واحد في مشكلة دارفور. فمن المعروف أنه هو مصدر تمويل أساسي لأغلب حركات دارفور المسلحة، وفي نفس الوقت يقدم نفسه كوسيط! ولم يكن النظام السوداني يجرؤ على اتهام ليبيا بدعم الدارفوريين لأنه يطمع في مساعداته. وفي هذه الحالة سيكون شعور النظام مزدوجا، ولكن الفصائل الدارفورية المسلحة سوف تكون الخاسر الأكبر في حالة غياب العقيد القذافي.

ويعود الجمود السياسي الذي يعيشه السودان في هذه الآونة، لكثير من تأثيرات العاصفة التي تجتاح العالم العربي، وعلينا ألا نقلل من الموقع الاستراتيجي المؤثر للسودان، فهو جار وصاحب حدود طويلة مع ليبيا ومصر. ومن الملاحظ أن النظام السوداني يكرر مقولة ان «السودان ليس مصر ولا ليبيا»، ولكنه في الوقت نفسه ليس الهند ولا بيرو، ولا يمكنه أن يتحصن تماما من عدوى الانتفاضات. ويحاول النظام إجراء إصلاحات تفوق مطالب المعارضة وأن يقطع عليها الطريق. والمعارضة السودانية تتمنع فقط، ولكن لا أدري حتام!

 

كاتب وباحث سوداني

Email