الانتفاضات الشعبية القاعدة والاستثناء

ت + ت - الحجم الطبيعي

وجد الناس جميعهم أنفسهم في حيرة من تطورات الأحداث السياسية في العالم العربي، خاصة ما يسمون بالمفكرين والمحللين والمختصين والخبراء الاستراتيجيين. فهذه الفئة التي نعتمد عليها في فهم الواقع السياسي واستشراف المستقبلات والبدائل والممكنات، وجدناهم يلهثون خلف الأحداث المتسارعة. ومن يطالع الصحف قبل انتفاضة تونس بقليل، يلاحظ اليأس من هذه الشعوب التي اعتبرت ميتة وأنها خارج التاريخ، وأصيب الكثيرون بنوع من الاكتئاب السياسي وهجروا الكتابة. وقد كان المشهد محبطا وخاليا من الأمل، وكانت الأمور تمشي عكس حركة التاريخ، فالسودان على بعد خطوات من التقسيم، ولبنان رجع للمربع الأول بعد إسقاط حكومة الحريري، والعراق في متاهته بين التفجيرات وممانعة القوى السياسية في التعاون لتشكيل الحكومة. وكان المحللون حين يطلون علينا، يتحدثون عن امتداد قوس الأزمات، أي امتدادها جغرافيا، ولكن لم يدر في خاطرهم دور الشعوب، لأنها كانت مغيبة تماما ويبدو عليها أنها قبلت بدور اللامبالي، وانتشر مصطلح «الأنامالية» أو أنا مالي! ونسي الجميع ـ حكاما وشعوبا ومحللين ـ دور العملاق النائم. هذا الوضع جعل ما حدث يأخذ شكل المعجزة أو السحر، ووقف كثيرون مندهشين، مما جعل التحليلات غير دقيقة وانطباعية.

هناك مقولة تتكرر كثيرا حين يتحدث البعض عن احتمال أن يعيد السيناريو الشعبي نفسه في بلدان عربية أخرى، فبعد انتفاضة تونس الشعبية تحدث كثيرون بأن الدور على مصر وأنها مرشحة للثورة. وجاء الرد من كثيرين أيضا بأن مصر «موش تونس»، وانفعل أحمد أبوالغيط وزير الخارجية المصري، وقال عن المقارنة بأنها «كلام فارغ»! ويؤكد أصحاب هذا الرأي أن المقارنة غير واردة، باعتبار أن لكل بلد ظروفه، ويستخدم مفهوم الخصوصية في هذه الحالة رغم «الثوابت» العربية ومفهوم «الوطن العربي» والذي يشير إلى المشتركات، بل التطابق في كثير من الخصائص والعادات والتقاليد والعناصر الثقافية. أقصد أن التبرير السياسي لإثبات الاختلاف، سوف يمس كثيرا من المسلمات. بالتأكيد هناك تاريخ مشترك وثقافة مشتركة، مما كان له أثره في تشكيل أو اختيار النظام السياسي والفلسفة أو الأيديولوجية السياسية السائدة، إذ لا توجد فوارق شاسعة وكبيرة بين النظم العربية من المحيط إلى الخليج، فهي تتشابه كثيرا ولا توجد إلا فوارق في الدرجة، وليس في النوع أو الكيف.

لا بد من طرح فرضية تقول بأن القاعدة هي تشابه النظم العربية في خصائص مشتركة، وهي القمع وغياب دولة القانون، الفساد والمحسوبية، التدخل الأمني، الفقر، العطالة، التخليف والتخلف. هذه الخصائص كفيلة بإثارة الغضب والمعارضة والاحتجاج، حتى تصل درجة الانتفاضة والثورة الشعبية. لذا في حالة تأخر أو تعطل الانتفاضة والثورة، لا يعني ذلك أن الظلم أو القمع أقل أو أن النظام في دولة معينة أكثر ديمقراطية.

وبالتالي الاختلاف ـ لو وجد ـ فهو في درجة قدرة المعارضة على استنهاض الجماهير في هذا الوقت بالذات. والاختلاف أيضا ليس في فضائل النظام المعين، ولكن في نجاحه في إضعاف وإنهاك المعارضة، مما يجعلها أبطأ في حشد الناس ورفع الوعي، ثم نزول الجماهير إلى الشارع سريعا. فالقانون هو أننا أمام حكومات أغلبها نظم طاغية وظالمة، وأكثرها انتهت صلاحيته ولم يعد فاعلا وقادرا على السيطرة. وهي نظم مستمرة، ليس بسبب قواها الذاتية، ولكن بسبب ضعف المعارضة أو غياب البديل.

هذه النظم ليست تقليدية وعتيقة، بل اكتسبت حداثة تستخدمها في تطوير وسائل القمع. وهذا يذكرني بمسرحية لدريد لحام يقول فيها إن الكهرباء قد دخلت «جسمه» قبل أن تدخل قريتهم! وقد استخدمت المؤسسة الأمنية في بلادنا الكمبيوتر قبل الجامعات والمصانع. وتعتبر الأجهزة الأمنية هي الأكثر حداثة من حيث الأدوات والمناهج أو الوسائل، وترصد لها إمكانيات مالية هائلة. وتعتمد الدولة اعتمادا كاملا على جهاز الأمن، وأطلقت يده حسب ما يظهر في القوانين العديدة المقيدة للحريات. ويلعب جهاز الأمن دورا حاسما في لجم الثورة أو الانتفاضة، ويقوم بضربات استباقية ضد المعارضة في أحيان كثيرة، مما يرجح استمرار النظام رغم فقدانه مقومات الوجود الفعّال. وهناك نظم تذكر بعصا سليمان المتآكلة، ولكنها لا تجد من يدفعها ليسقط. ويجب عدم الاعتماد المطلق على أجهزة الأمن حتى ولو كانت جيدة. وفي هذه النقطة علينا الا نخلط بين القوة والعنف، فالعنف الذي يبديه النظام القمعي، ليس في كل الأحوال دليل قوة، فالإفراط في العنف علامة خوف ودفاع عن الذات وشعور خفي ومستمر بالخطر.

ومن النماذج القوية لهذا الخلط، التعامل مع السماح للإخوان المسلمين بالعمل السياسي والعلني، وتكوين حزب سياسي عادي مثل بقية القوى السياسية. وعلى العكس تسببت الملاحقة والقمع ـ حسب رأيي ـ في زيادة التعاطف مع الإخوان وأكسبتهم تأييدا. وفي أحيان كثيرة، كانت الجماهير تصوت تصويتا عقابيا ضد الحزب الحاكم، ويكسب الإخوان المسلمون في الانتخابات بهذه الطريقة. ومن ناحية أخرى، يخضع استخدام الوسائل الأمنية لقانون يشابه القانون الاقتصادي الذي يسمى قانون تناقص الغلة. فالأرض مثلا، بعد فترة يتوقف إنتاجها عن الزيادة، مهما بذلت فيها من مخصبات. ويطبق أيضا في الحروب، فالقصف بعد مدة معينة يكون مردوده صفرا. كذلك المبالغة في اللجوء للحلول الأمنية يصل درجة يكون بلا فائدة سياسية ولا يردع المعارضين.

تقوى قاعدة الانتفاضة ضد النظام القمعي وتقل احتمالات الاستثناء، عندما يعجز النظام عن الاحتفاظ بالبطانة أو السدنة، وهذا يحدث مع تفاقم الأزمة الاقتصادية للنظام، فيصبح غير قادر على تلبية الامتيازات التي يمنحها للعناصر المرتبطة به. وهناك علاقة عكسية بين تناقص الامتيازات أو الغنيمة، وبين قوة الولاء. ففي الفترة الأخيرة، أصبحت الأوضاع الاقتصادية متأثرة بالأزمة العالمية، وهذا سيوقف الصرف البذخي الذي يمارسه أي نظام قمعي، فهو يصرف على قطاع غير إنتاجي ويصعب أن يستمر الوضع على هذه الصورة مع التغيرات الجارية.

النظم التي تصر على أنها مختلفة عن البلاد التي اندلعت فيها الثورة، تدخل في وهم كبير بأنها تمثل الاستثناء. بينما الاختلاف والاستثناء في معسكر المعارضة، باعتبار أنها تواجه مشكلات ذاتية تقعدها عن المبادرة. وعلى هذه النظم أن تسارع بالقيام بعمليات إصلاح برضاها واختيارها، أي بيدها وليس بيد عمير. ولكن هذه النظم ينتابها قدر من سوء التقدير في مثل هذه الظروف، ويكون رد فعلها متأخرا وكارثيا أيضا.

 

كاتب وباحث سوداني

Email