مصر.. شرعية المستقبل

ت + ت - الحجم الطبيعي

أبدأ اليوم سعيدا فرحا، لأنه فجر جديد نحو المزيد من الحرية والعدالة. وهذا أمر مثير للسعادة والفرح، لو حدث في أي مكان في العالم، حتى ولو كان في فيجي أو في المارتنيك، فما بالك وهو في مصر وأن تكون حاضرا للحدث؟ ولكن لا أدري لماذا هذا التلازم المقلق بين الفرح والخوف؟ ففي وسط بهجة الانتصار الرائع للثورة المصرية، شعرت بخيط من الانقباض في شكل سؤال غير واثق: هل يستطيع هذا الشباب الغضّ البريء النقي، أن يكمل أخطر مرحلة في الثورة؛ تأسيس البديل، بلا معوقات ومؤامرت؟ ففي مثل هذا الظرف الحاسم، يطل سؤال غير بريء يقول في خبث مضمر: ثم ماذا بعد؟ فالسائل يعرف أن الثوار حين هبوا كانوا مدركين هدفهم الأول، بمعنى وجود الخطة في الذهن ووضوح الوسائل. ففي الحقيقة سقط النظام يوم ‬28 يناير، حين كسر الشباب حاجز خوفهم وفي نفس الوقت نقلوا الخوف، أو على الأقل في الاضطراب، إلى معسكر الخصم (النظام). فقد سادت ألفاظ: نقل السلطة، التفويض، التكليف، التنازل.. الخ.

وهذا يعني أن السلطة قد تحركت من مكانها الأصلي وهي تتجول هائمة، وكان الوضع في غاية الخطورة والمخاطرة، وكل شيء ممكن والاحتمالات مفتوحة. لذلك، بدأ البعض في طرح أسئلة هي الآن انصرافية تماما، مثل: هل يمكن وصفها بثورة أم انتفاضة شعبية أم هبة جماهيرية؟

كانت تشغل جيلنا الستيني مفاهيم تهتم بوصف الثورات وتحليلها، أكثر من صنعها أو تطويرها. لذلك، فاجأتنا هذه الثورة أو الانتفاضة، لأننا كنا نبحث عن: ما هي القوى الاجتماعية أو الطبقات الاجتماعية التي تقود هذه الحركة؟ أو نسأل عن نضج الأزمة الثورية؟ والآن تطالبنا ثورة شباب مصر بلغة جديدة ومفاهيم جديدة، وأدوات مختلفة للتنظير والتفكير. وفي هذه الحالة يمكن أن نتحدث عن الطلاب كقوة اجتماعية واحدة، باستخدام معيار مختلف ليس هو الاقتصادي ـ الاجتماعي، بل ثقافي ـ سياسي أو فكري. وهنا يحتاج مفهوم العلاقة بين البناء التحتي والبناء الفوقي، إلى إعادة نظر جذرية.

وقد سبق لثورة الشباب عام ‬1968، أن طرحت تحديات نظرية وسياسية من هذه الشاكلة. وفي ذلك الوقت برز اليسار الجديد الذي بشر بإمكانية أن يقوم الطلاب والشباب بقيادة الثورة، وليس بالضرورة أن تقوم بذلك الطبقة العاملة أو البروليتاريا. وكان هذا سبب الخلاف العدائي مع الأحزاب الشيوعية الأوروبية، رغم تحرريتها النسبية آنذاك، وصنفت هذا التفكير ضمن رؤية البورجوازية الصغيرة.

ويطالب البعض شباب ميدان التحرير المتظاهرين، بتكوين حزب سياسي يمثلهم وينقل أفكارهم. وقد تعالت هذه الفكرة مع الدعوة للحوار، وقال كثيرون بأنه لا يمكن للشباب توصيل صوتهم دون وجود كيان يعبر عنهم. والآن مع بداية المرحلة الانتقالية، سوف يفتح الباب لتكوين الأحزاب، فلا بد لهم من كيان. وهذا رأي صائب، إذ لا بد أن يشرعوا في تكوين حزب سياسي سيكون جديدا وشابا، خاصة وأن الأحزاب تعاني الشيخوخة حرفيا. فكل القيادات الحزبية الحالية فوق الستين، بل وأظنها جميعها سبعينية. والأهم من ذلك، أن تفكيرها وبرامجها عتيقة وتجاوزها الزمن، وبالذات الأحزاب العقائدية.

وقد سمعت قبل يومين وائل غنيم الناطق باسم الشباب، يتلو بيانا بمطالب مقدمة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، لتساعدهم في ضمان إنجاز مهام المرحلة. وأعتقد أنه يكفي كبرنامج حزبي للمرحلة القادمة. وقد ينبري بعض المتقعرين، متحدثين عن غياب الأيديولوجيا عند هؤلاء. إن المستقبل والعلم والتكنولوجيا هي مكونات تلك الأيديولوجيا، وقد أظهروها عمليا وليس بالكلام والحنجرة، فقد كان تحريك كل العمل الحالي قد تم بواسطة تقنيات حديثة. وقبل أن تتحول حركة الشباب إلى حزب رسمي، لا بد لها من التمرين على: كيف تكون جماعة ضغط فعّالة خلال الفترة الانتقالية؟ هناك قضايا ملحة سوف تطل مباشرة فورا، وقبل أن يقوم الشباب بتنظيف ميدان التحرير، وعلى رأسها المشكلة الاقتصادية وملحقاتها؛ من البطالة والجريمة ومشكلات البيئة والهجرة الشرعية وغير الشرعية... الخ.

وهنا إمكانية الاستفادة من قدرات الشباب التقنية في الوصول وتوصيل المعلومات، ثم تحويل هذه المعلومات إلى برامج ومقترحات للحكومة. والشباب كمجموعة ضغط، لا بد له أن «يخلي السلاح صاحي». وسلاح الشباب هو القدرة الاحتجاجية، وكيف يوظّف المظاهرات والاضرابات والاعتصامات. ودائما ما يخطر في بالي تطور حزب الخضر الألماني، فقد عاصرت نشأة الحزب كمجموعة ضغط صغيرة في منتصف سبعينيات القرن الماضي، كانت تحتج على التجارب النووية والإضرار بالبيئة، وبعد سنوات قليلة كانوا مشاركين في الحكومة. هذه تجارب قيمة وثرية يمكن الاستفادة منها.

سوف تواجه الثورة المصرية صراعا خفيا، بين الحداثة والتقليدية أو المحافظة. فمن المعلوم أن أغلب المنظمين والمنتسبين للثورة ذوو تعليم حديث، ومن أسر تنتمي للطبقة الوسطى أو الوسطى العليا، ولكن الثورة خلقت تلاحما عظيما، والسؤال؛ هل يمكن أن يستمر هذا التلاحم الذي تم في ظرف استثنائي؟

تعاني مصر في الظروف العادية من تفاوت طبقي واضح، يعبر عن نفسه بأشكال عديدة في الحياة اليومية. وفي حال تشكل حزب الشباب، لا بد من البحث عن صيغة عملية تتجاوز الفوارق الطبقية، وتوسع العضوية بحيث يذوب الطبقي عند الممارسة الحزبية. وهذه العقبة يمكن مواجهتها بتربية أو تنشئة سياسية مختلفة وجديدة تماما، ويعتمد هذا على طبيعة الحزب نفسه.

لقد منحت فترة المواجهة خلال الـ‬18 يوما الماضية، فرصة جيدة للشباب لممارسات ثقافية وسلوكية. فقد كان التعامل راقيا للغاية، خاصة وهناك عدد من أنماط السلوك التي صارت سمات معيبة ومخجلة في حياتنا، مثل عدم النظافة والتحرش الجنسي والمشاجرات والبلطجة. ويكاد المرء يجزم بأن هذه الأفعال قد اختفت تماما بين هذه الأعداد الهائلة من المتظاهرين، والتفسير الوحيد لذلك هو بداية انحسار شعور المواطنين بالاغتراب، فهل يمكن أن تكون الفترة الثورية أداة تطهير اجتماعي وفردي؟

حقق الشباب المصري ثورة تاريخية عظيمة، وهذه مسؤولية عظيمة تحتم عليه الاستمرارية والولوج بقوة في المستقبل. لذلك، فالتفريط غير مسموح به، ولا بد من اليقظة والحذر والصمود، خاصة وأن المرحلة الراهنة ذات تحديات عظيمة تحتاج للعزيمة.

 

كاتب وباحث سوداني

Email