ثورة الشباب في مصر اختُطِفت

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يسعنا سوى أن نتأثّر برؤية شبّان وشابّات مثقّفين يتظاهرون في ميدان التحرير في القاهرة، من أجل مستقبل أفضل. عندما يسمح هذا العدد الكبير من الجمهوريات العربية لرؤسائه بأن يمسكوا بزمام السلطة إلى ما لا نهاية، ويهيّئوا أبناءهم للحلول مكانهم وكأنهم ملوك، لا عجب في أن تطالب الشعوب في مختلف أنحاء شمال إفريقيا والشرق الأوسط بالتغيير.

لكن هناك خيطاً رفيعاً بين الحرّية والفوضى، وبصراحة تشير الصور التي تبثّها شاشات التلفزة، إلى أن الفوضى هي التي تعمّ البلاد.

تسود شريعة الغاب في مصر. يُحرق «البلطجية» المباني التاريخية والمؤسسات التجارية ومراكز التسوّق. ويسرح اللصوص ويمرحون، مما يُرغِم العائلات المصرية على التمترس داخل منازلها. ويغادر الأجانب البلاد بأعداد كبيرة. المصريون الذين كانوا مسالمين يتعاركون حتى الموت، والاقتصاد يتهاوى أكثر فأكثر.

ليست هذه مصر التي أعرف وأحبّ. والمؤسف أنه ربما كان ينتظرها ما هو أسوأ بكثير. يقول المثل: «حذارِ مما تتمنّاه، فقد يتحقّق».

صحيح أن الرئيس حسني مبارك الذي أصبح متقدّماً في السن، ارتكب أخطاء في الآونة الأخيرة، وأقام مسافة بينه وبين تطلّعات الشارع. لكن لا يجب أن ننسى أنه كان قائد سلاح الجو الذي أعاد لمصر كرامتها خلال حربها مع إسرائيل عام ‬1973. وقد حافظ خلال فترة رئاسته على استقرار مصر، وعزّز علاقاتها مع المجتمع الدولي، وأجرى تحسينات في البنى التحتية، وحفّز مناخاً مؤاتياً للاستثمارات الأجنبية، وترأس اقتصاداً يسير على طريق النمو. لهذا شعرت بالاشمئزاز لدى رؤية مصريين يعلّقون مشانق لمجسّمات تجسّد رئيسهم، ويرشقون صوره بالأحذية. فحسني مبارك، وعلى الرغم من كل أخطائه، يحبّ وطنه، ويريد أن يموت على أرض مصر.

فضلاً عن ذلك، تجاوب على الفور مع مطالب المتظاهرين، عبر إقالة حكومته، والتعهّد بأنه لا هو ولا ابنه سيترشّحان للانتخابات الرئاسية المقبلة. وعيّن لأول مرة نائباً للرئيس، وأعطى تعليمات لحكومته الجديدة من أجل تعديل بنود في الدستور، والتحاور مع المعارضة، وتأمين وظائف لخرّيجي الجامعات.

في الوقت نفسه، مُنِع وزير الداخلية السابق المسؤول عن همجية الشرطة، إلى جانب وزير السياحة ووزير الإسكان اللذين يُعتقَد بأنهما ضالعان في الفساد، من السفر وجُمِّدت حساباتهما المصرفية.

أظنّ أن الرئيس مبارك لم يكن يدرك أن أشخاصاً محيطين به يسيئون استعمال سلطاتهم بهدف جمع ثروات شخصية. وأنا ألوم المقرّبين منه على جبنهم وتقصيرهم في لفت انتباهه إلى الممارسات الفاسدة وهمجية الشرطة.

لا شك في أنه جُرِح كثيراً لأنه وجد نفسه فجأةً موضع كره. لا أعرف إذا كان منتجو الفيلم المصري «طباخ الريس»، يملكون معلومات مستقاة من مصادر مطّلعة، لكن الفيلم تحدّث عن عزلة الرئيس عن العالم الحقيقي بفعل خطّة دبّرها معاونوه.

لقد تمّت تلبية كل المطالب التي رفعتها المجموعة الأساسية من المتظاهرين في البداية، بيد أن الحركة التي انطلقت من خلال موقعَي «فايسبوك» و«تويتر» على الإنترنت، اختطفها أشخاص وأحزاب تحرّكهم أجندات معيّنة ومصالح خاصة، وتدعمهم قوى أجنبية في بعض الحالات.

وليس الخاطفون سوى انتهازيين يسعون وراء السلطة. هم يريدون إذلال الرئيس مبارك. يريدون رؤيته يهيم في الأجواء بحثاً عن بلد مستعدّ لاستقباله كما شاه إيران، ومؤخراً الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي. لا عجب في أن مبارك يرفض هذا الإبعاد المهين.

لقد أقرّ لمحطة «أيه بي سي نيوز» أنه «طفح به الكيل» من الرئاسة، لكنه يخشى أن يؤدّي رحيله إلى غرق مصر في الفوضى. يريد أن يُكمل ولايته للإشراف على انتخابات حرّة ونزيهة وتسليم منظَّم للسلطة.

لكن الخاطفين يرفضون حتى هذه التنازلات غير المسبوقة، ويصرّ كثر على أنهم لن يدخلوا في حوار مع نائب الرئيس إلا بعد رحيل مبارك. هذا الشرط غير منطقي على الإطلاق، فحتى الموظّف المطرود يُمنَح عادةً فترة شهر لإخلاء مكتبه.

والأهم من ذلك، يحتاج المصريون إلى الوقت للتفكير في الشخص الذي سيختارونه رئيساً مقبلاً عليهم، لا سيما وأن أشخاصاً مثل البرادعي الذي عاش عشرين عاماً في الخارج، ورئيس حزب الغد أيمن نور، لا يحظون بالكثير من الدعم الشعبي. الحزب المعارِض المنظَّم الوحيد هو جماعة «الإخوان المسلمين» المحظورة، التي انضمّت متأخّرة إلى التظاهرات، وتمارس منذ ذلك الوقت لعبة ذكية عبر الإعلان بأنها لن تُقدِّم مرشحاً للرئاسة وتكتفي بالتظاهر بأنها علمانية. هذا ما تقوله الآن، لكن ماذا سيحدث لاحقاً؟

هؤلاء الأشخاص يموِّلون حركة «حماس»، وأقرّوا بأنهم يريدون فرض الشريعة، ويدعمون قيام خلافة إسلامية. لا يجب السماح لهم بالمشاركة في أيّة انتخابات. وأخشى أيضاً أن تقع مصر ضحية حكم العصابات في المستقبل، بعدما تذوّقت الحشود طعم النجاح، وأن تعاني المنطقة بأسرها من تأثير الدومينو وتنتقل إليها هذه العدوى.

وأكثر ما يفاجئني هو ازدواجية إدارة أوباما التي تصرّ الآن على الرحيل السريع للرئيس مبارك، مع العلم بأنه لطالما كان صديق واشنطن المتعاوِن. مبارك محق في قوله إن الرئيس أوباما لا يفهم مصر أو التداعيات التي يمكن أن تنجم عن التعجيل في رحيله. تقدّم إطاحة صدام حسين درساً تحذيرياً في هذا السياق. صحيح أنه كان رجل بطش، إلا أنه وحّد العراقيين كافة تحت راية واحدة، وفرض القانون والنظام. الديمقراطية هدف رائع، لكن لا يمكن فرضها بين ليلة وضحاها في دولة لم تعرفها قط.

أكنّ الإعجاب للرئيس أوباما، لكن مصالح الولايات المتحدة تتحقق في شكل أفضل إذا نأى بنفسه عن السياسة العربية الداخلية، وركّز على حل مشاكل الأشخاص الذين لا يملكون منازل في بلاده ويعيشون على الإعانات الغذائية، وكذلك على معالجة تداعيات اجتياح سلفه لكل من أفغانستان والعراق.

لا نريد أن ينتهي الأمر بمصر مثل إيران الأصولية، أو العراق الذي كان مهداً للحضارة وأصبح الآن مهداً للإرهاب. ولا نريد أن تصبح مصر انعكاساً للبنان وتنجرّ إلى حرب أهلية دموية. ولا نريد بالتأكيد أن تصبح كل الحكومات في المنطقة رهينة لدى العصابات.

كلمة أخيرة إلى المصريين في الشوارع:

رجاءً عودوا إلى منازلكم قبل أن تدمّروا اقتصاد بلادكم عن غير قصد، وتزرعوا الانقسام بين أبناء شعبها وتشوّهوا سمعتها إلى الأبد. لقد قلتم كلمتكم، وتجاوبت الدولة، والآن عليكم أن تتحلّوا بالصبر. امنحوا رئيسكم فرصة كي يُعيد إلى مصر كرامتها واستقرارها، قبل فوات الأوان. بارككم الله جميعاً!

Email