ماذا بعد تتالي الاعترافات بالدولة الفلسطينية؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

جاءت بعض الاعترافات الدولية المتتالية بالدولة الفلسطينية، لتنشر موجات من التفاؤل لدى بعض الأوساط الفلسطينية، بعد المأزق الكبير الذي وصلت إليه عملية التسوية المختلة، وقد بالغ البعض في تفاؤله إلى درجة كبيرة، بينما لا يزال الاحتلال جاثماً على صدر الشعب الفلسطيني، والأرض تهود كل يوم.

وبالطبع، فإن هذا لا ينفي إيجابيات الاعترافات الدولية، لكن تلك الاعترافات على أهميتها، تبقى محدودة الفعل والتأثير، ما لم تترافق معها حركة دبلوماسية وسياسية وإعلامية فلسطينية نشطة، تنتقل بالعمل الفلسطيني من مرحلة اللهاث وراء نهج المفاوضات وحدها دون غيرها، إلى آفاق أرحب، يتم من خلالها تثمير كل عوامل وأوراق القوة الفلسطينية، وأولى تلك الأوراق ضرورة إنجاز وحدة الشعب والبيت والصف الفلسطيني بعد سنوات من الانقسام المدمر، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية التي يفترض أنها تشكل الإطار التمثيلي والكياني الموحد لعموم الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، وعلى قاعدة إشراك وحضور الجميع من القوى السياسية والكفاحية الموجودة على الأرض، بأطرها ومؤسساتها وتركيبتها القيادية، خصوصاً حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وعلى أساس برنامج الإجماع الوطني التوافقي بين الجميع. إن الاعترافات الدولية المتتالية بالدولة الفلسطينية، تظهر في جانب مهم منها، أن بإمكان الفلسطينيين القيام باشتقاق خيارات كفاحية متعددة، تتجاوز الطريق الأميركي وحيد الاتجاه، وهي اشتقاقات ممكنة كبديل عن خيار التفاوض وحده في ظل اختلال عملية التسوية بشكل صارخ، وغياب الراعي النزيه لها. ولكن اشتقاق تلك الخيارات مسألة غير ممكنة، ما دام التمزق الداخلي يضرب أطنابه في الساحة الفلسطينية، وما دامت المراهنة متواصلة على الخيار التفاوضي باعتباره الخيار الوحيد اليتيم. من هنا، فإن المقاومة وباقي الخيارات، تشكل الوسيلة الأنجع لتحقيق المشروع الوطني الفلسطيني بإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، مع تجنب طرح خيارات لا تخدم هذا المشروع، كخيار الذهاب إلى الأمم المتحدة وإحالة القضية الفلسطينية إليها، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

الاعترافات الدولية قد يكون لها جدوى «إذا استثمرت في سياق خطة فلسطينية خالصة، بعيدة عن المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي». ومن هنا فإن هذه الاعترافات يجب أن تترافق مع إعلان من القيادة الفلسطينية بفشل المفاوضات مع إسرائيل، وهو ما يستوجب القيام بوقفة نقدية جادة، واتخاذ خطوات نوعية لإعادة بناء البيت الفلسطيني الداخلي. فاستمرار المفاوضات مع الدولة العبرية في ظل هذه الاعترافات بالدولة الفلسطينية، سيكون غطاءً تستخدمه إسرائيل للمماطلة. ومن هنا أهمية استغلال هذا الجهد العالمي، ليكون حقيقة ورافعة من روافع الإسناد للكفاح الوطني الفلسطيني، وليس لصالح المفاوضات بصيغتها التي تريدها الدولة العبرية والولايات المتحدة وبعض الأطراف الإقليمية.

إن الاعترافات المتلاحقة بدولة فلسطين، تأتي رغم التعنت الإسرائيلي والتواطؤ الأميركي، وتحمل في هذه الظروف معاني مهمة، تؤكد تزايد الدعم والتأييد الدولي لحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. كما تؤكد أن للفلسطينيين طيفاً واسعاً من الأصدقاء والأنصار على امتداد المعمورة، رغم اختلال المعادلات والتوازنات الإقليمية والدولية.

ومع ذلك، فإن من الضروري عدم المبالغة في تلك الاعترافات وما ستضيفه للقضية الفلسطينية، فهي على أهميتها، تفترض تطوير العمل الفلسطيني وفق استراتيجية شاملة، لتعزيز الصمود والمقاومة وإنهاء الانقسام الفلسطيني، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير، وللبعد العربي للقضية الفلسطينية، وألا تكون تلك الاعترافات بديلاً عن باقي الوسائل الكفاحية المفترضة والمشروعة.

وتبرز في هذا المجال أهمية الدور العربي، حيث من السذاجة الاعتقاد بأن العالم سيدعم قضية فلسطين بجدية، إذا لم يكن هناك موقف عربي حازم يتجاوز المواقف الرسمية الراهنة للنظام الرسمي العربي، وحالة الركود السياسي التي يعيشها في التعاطي مع العملية السياسية وتحولاتها اليومية على أرض الصراع في فلسطين. إن الدعم والإسناد العربي يفترض أن يشكل العنصر الأبرز في إنجاح الخيارات والبدائل الوطنية الفلسطينية، في سياق السعي لترجمة الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية، إلى حقيقة راسخة على الأرض بقيام هذه الدولة قولاً وعملاً.

لكن ظروف استحضار الدور العربي المطلوب ما زالت صعبة وغير مهيأة، لعدة أسباب في وقت واحد، يقف على رأسها غياب الموقف العربي الموحد، المستند لرؤية واستراتيجية عربية مشتركة بشأن العملية السياسية في المنطقة. فالموقف العربي ما زال ضعيفاً، ويراوح عند حدود ضيقة وضعيفة عنوانها مبادرة السلام العربية التي أطلقت قبل ثماني سنوات. ومع هذا فإن تلك الرؤية العربية المتواضعة أجهضت في مهدها من قبل الاحتلال الذي رفضها على الفور، فيما عملت الإدارة الأميركية على تمييعها. وللأسف فإن الحالة العربية لم تقدم البدائل للمبادرة (اليتيمة) التي ما زالت تشكل العنوان السياسي العربي للمجتمع الدولي، بشأن العملية السياسية في المنطقة. ومن هنا، فإن سلسلة الاعترافات الدولية بحق الشعب الفلسطيني وبدولته المستقلة، تتطلب الآن إعادة بناء استراتيجية فلسطينية جديدة، متوافقة مع رؤية عربية جديدة، تتجاوز الحالة الهابطة في الوضع الرسمي العربي على مستوياته كافة.

إن الشعب الفلسطيني، يريد وينشد البدائل التي تفتح الطريق أمام تجسيد عملي وقانوني للدولة الفلسطينية على أرض الواقع، وعودة اللاجئين، عبر انتزاع تلك الحقوق من يد الاحتلال، بالمقاومة والنضال متعدد الأشكال، وليس عبر مفاوضات الغرف المغلقة، التي تتم تحت إدارة وإرادة الراعي الأميركي المنحاز، وموقفه المتماهي مع الموقف الإسرائيلي، بالنسبة لمستقبل الحل والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

 

Email