تونس.. البديل الصعب

ت + ت - الحجم الطبيعي

أكمل الشعب التونسي العظيم المهمة الأولى لثورته المجيدة، كما يجب أن تكون الثورات الناجحة. فقد كان هروب الطاغية كرمز للحكم الفردي التسلطي، بلا مقاومة تذكر، حدثا كبيرا ومكسبا للجماهير، وإعلانا بأن فعل هدم النظام القديم قد انطلق.

من المعلوم أن الثورة التونسية كانت شعبية عفوية، ولكنها بأي حال لم تكن عشوائية. ويظهر ذلك في الاستمرارية والمثابرة والصبر، وتحمل العنف الرسمي من قبل الأجهزة الأمنية. صحيح أنه لم يتقدم المتظاهرين أي حزب سياسي أو جبهة حزبية أو نقابة عمالية كبرى؛ ورغم ذلك لم يساورنا أدنى شعور بغوغائية أو فوضوية الجماهير المتظاهرة في الشوارع. وغالبا في هذه المرحلة يقف بعض المتشككين أو الشامتين، طارحين سؤال حق يراد به باطل: ثم ماذا بعد؟ وهذا السؤال هو في الحقيقة البحث عن البديل الذي يشبه المقدمة، ويكون نتيجة منطقية بها. فقد عرف التاريخ سرقة الثورات وإجهاض الهبّات الشعبية، وسمعنا عن الثورة التي أكلت بنيها أو صانعيها، والثورات الشعبية العفوية مثل التونسية، هي الأكثر عرضة لمثل هذه المصائر. لذلك، كان من الطبيعي أن تنتابنا الهواجس على ثورة تونس، فهي قد جاءت وماضي النظام القديم يلازمها، بل هو ـ للمفارقة! ـ حاضر فيها.

كان من أكبر تحديات الثورة التونسية، أنه في حالة البحث عن الشرعية العملية، لا بد لها من استدعاء دستور النظام الذي أطاحت به. فهي لا تملك الجهاز أو الهيئة المكلفة دستوريا وشرعيا بتعيين رئيس الجمهورية، أو رئيس الوزراء مباشرة دون المرور برئيس جمهورية يسميه النظام القديم. وكل الأحداث الحالية واستمرار المظاهرات والمواكب، هي نتيجة طبيعية لهذا التناقض العظيم والذي يهدد كل مكتسبات الثورة. فقد تقدم رئيس مجلس النواب للموقع الذي كفله له الدستور، ولكن الدليل على الفوضى والارتباك، هو تقدم الوزير الأول لشغل منصب الرئيس وشروعه في إصدار قرارات. وهذا دليل على وجود فراغ دستوري ما زال قائما، لأن الشارع وسيلة ضغط، ولكنه ليس مؤسسة يرجع إليها في إصدار القرارت المصيرية.

ويمكن أن نلاحظ الآن المأزق، فقد بدأ مجلس الوزراء اجتماعاته، وأصدر بعض القرارات التي تحتاج إلى موافقة البرلمان (وهو برلمان عهد ابن علي). ومن ناحية أخرى، ما زال الشارع لم يتوقف، ويطالب برحيل الحكومة التي يصر على عدم شرعيتها، ويصل لدرجة منع بعض الوزراء من ممارسة الأعمال المنوطة بهم. أبرزت الثورة التونسية ظاهرة، هي الأولى من نوعها في الحياة السياسية في العالم العربي. ويتمثل ذلك في تقدم المجتمع المدني، ممثلا في الاتحادات والروابط القانونية ومنظمات حقوق الإنسان (قيادات مثل منصف المرزوقي والطيب البكوش)، بالإضافة إلى اتحادات الشغل والنقابات المهنية واتحادات الطلاب. ولا يبدو أن كل هذه القوى تعمل تحت مظلة واحدة أو تقوم بعملية تنسيق جماعي، وهذا وضع هش وشديد الخطورة، ويصعب أن يستمر لفترة طويلة، وستكون بالتأكيد العناصر المضادة في حالة ترصد، وستعتمد على الجنرال الزمن.

وتحضرني هنا الحالة السودانية في المرتين اللتين شهدت البلاد فيهما انتفاضات شعبية، في ‬21 أكتوبر ‬1964 و‬6 إبريل ‬1985، فقد كان المسار يكاد يكون متطابقا مع ما حدث في تونس، بل تفوق عليه بتنظيم العصيان المدني أو الإضراب السياسي. ولكن في المرتين استولت قوى الثورة المضادة على السلطة بعد شهور قليلة. ويعود سبب الانتكاسة إلى أن القوى التي تقوم بهذه الثورات، هي قوى حديثة مدنية أو حضرية، تعمل في القطاعات الحديثة، ونخبوية تماما، وهي تتميز بقدرة على التنظيم والديناميكية. وهذا طبيعي لأنها متعلمة ومنفتحة على العالم، ولكنها على الأرض تمثل أقلية وصفوة مجتمع قليلة العدد، وتعوزها الشعبية. فالجماهير تحتاجها في مرحلة معينة،ولكن سرعان ما تنفض عنها وتعود إلى أحضان منظماتها وتجمعاتها التي تشعر بينها بأمان أكثر، وشعارها يقول: «الجن الذي تعرفه خير من الجن الذي لا تعرفه»! وهذا الوضع قد يفسر لماذا تلجأ هذه النخب للانقلابات العسكرية، فهي أكثر دينامية وتضحية، ولكنها أقل شعبية، ووجودها ضعيف بين الجماهير خاصة في الأرياف والبوادي.

تواجه الثورة التونسية الاختبار العملي لديمقراطيتها، وذلك حين تطالب الجماهير بمنع التجمع الدستوري، وهناك من يتردد في قبول الإسلاميين، وبالذات حزب النهضة. فالبعض يشترط في من يريد الديمقراطية أن يكون ديمقراطيا حقيقيا في ذاته.

وهنا المطلوب من كل الأطراف أن تؤمن وتمارس مبدأ«الحرية لنا ولسوانا». وهذا مطلب صعب مع ضرورات «عزل أعداء الثورة»، وهناك من «يريد القضاء على الديمقراطية باستخدام الديمقراطية نفسها»! فقد كوّن الحزب الدستوري طبقة اجتماعية نافذة ومتغلغلة في نسيج المجتمع التونسي، بالإضافة لكثير من المنتفعين. فهل يمكن تكرار فكرة اجتثاث حزب البعث العراقي؟ نحن نتابع ما يحدث في العراق، والحلقة المفرغة التي يدور فيها. وهل يحتمل أن يعود التجمع الدستوري إلى السلطة مجددا عن طريق الانتخابات لو سمح له بالعمل السياسي الحر؟ أمّا مسألة الإسلاميين وحزب النهضة بالذات، فقد قام الحزب بمراجعات جذرية بخصوص موقفه من الديمقراطية. ويسعى حتى إلى أن يكون الحزب الإسلامي الليبرالي الأول في المنطقة.ولكن البعض يتشكك في جدية الإسلاميين في موقفهم الديمقراطي، وأخشى أن تكون التجربة الإسلامية في السودان قد أضرت برصيفاتها العربية.ولكن في كل الأحوال، يبقى موضوع العزل السياسي من أهم مشكلات الفترة الانتقالية الراهنة. من الأسئلة الهامة: هل تستطيع الأحزاب التي أبعدت طويلا عن العمل السياسي الحقيقي، أن تنظم نفسها وتستعد للانتخابات خلال فترة الستة أشهر القادمة، أم ستكون مشغولة بمظاهرات حل الحكومة ومطاردة بقايا نظام بن علي؟

سوف تواجه الأحزاب السياسية قضية التمويل، وهذا يطرح التساؤلات حول المستقبل الاقتصادي لتونس. فالاقتصاد التونسي يعتمد تماما على الخارج: السياحة والاستثمارات. والمكونان يحتاجان للاستقرار، والوضع الراهن غير مطمئن لمثل هذا النوع من الاقتصادات، مما يعني أن التونسيين موعودون بأزمة اقتصادية حادة. وهذه من مقاتل الديمقراطية، وغالبا ما يكون الضيق الاقتصادي من مبررات الانقلابات، كما هو من مسببات الانتفاضات الشعبية. المعادلات الصعبة عديدة وتحتاج إلى قدر كبير من الحكمة السياسية والعقلانية. والخشية أن تجرف النشوة الحالية أصحاب المصلحة الحقيقية إلى الهاوية، لذلك لا بد من اليقظة، خاصة وان المتربصين حاولوا في الأيام الأولى خلق الفتنة وفشلوا..ولكن، هل يئسوا؟

 

Email