العربي التائه!

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان الإنسان العربي، المتنقّل في أرجاء الجزيرة العربية، يدرك قبل انتشار العرب والعروبة في بقاع المنطقة الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، سبل ترحاله في غياهب الصحراء دون اعتمادٍ على بوصلة ترشده. فقد كان يكفيه رصد حركة النجوم والقمر وما حوله على الأرض، ليعرف طريقه ويصل إلى هدفه.

الإنسان العربي المعاصر هو الآن إنسان تائه، رغم ما هو عليه من تقدّم في العلوم والمعرفة. فلا هو يعرف إلى أين يسير مستقبله، ولا حتّى مصير وطنه وأرضه ومجتمعه. هو شعور بالتّيه يسود معظم شعوب المنطقة العربية، فالحاضر عندها مذموم والغد فيها مجهول. لا الوطن هو الوطن المنشود، ولا الغربة هي الوطن البديل. ومع بدء كلّ عام جديد، يتجدّد عند الأفراد والشعوب الأمل بتغييرٍ نحو الأفضل في حياتهم وظروفهم، دون إدراك أنّ «الزمن» وحده لا يُغّير الحال، وأنّ سياسة «حسيبك للزمن» تنجح ربما عاطفياً، لكنّها عملياً لا تُغيّر من الواقع شيئا. قد يحدث العكس، حيث يؤدّي تراكم السلبيات مع مرور الزمن، إلى مضاعفة المشاكل والأزمات. فإذا كان «الزمن» هو «البُعد الرابع» علمياً في «القياسات»، فإنه أيضاً «البُعد الرابع» في الأزمات وفي مقوّمات الحياة عموماً. فهو «البُعد الرابع» في مفهوم «الدولة» التي تقوم على «أرض وشعب ومؤسسات حكم»، وهو «البُعد الرابع» في نشوء الحضارات واستمرارها، وهو أيضاً «البُعد الرابع» في ممارسة الأسلوب العلمي في العمل العام، الذي يقوم على التلازم بين «النظرية والاستراتيجية والتكتيك». وأرى «الزمن» أيضاً «بُعداً رابعاً» في مسألة «الهُوية» لدى العرب، حيث تقوم المنطقة الآن على «هُويّات ثلاث» متفاعلة، هي؛ الوطنية والعروبة والدين.

فأين العرب والمنطقة العربية الآن من ذلك كلّه، بعدما فعل «الزمان» فعله في العقود الأربعة الأخيرة؟! فالتراجع والانحدار هو الآن سمة متزامنة مع مفاهيم «الدول» العربية، وما يحصل في معظمها من تفكّك لمقوّمات الدولة ولمفهوم الوطن والمواطن. كما هو الأمر في «المسألة الحضارية»، وفي كيفيّة ممارسة «العمل السياسي»، وفي قضية «الهوية». في الإعلام والسياسة، ليست هناك تنبؤات، إنّما هناك توقّعات تبنى على تحليل موضوعي للواقع يحاول قراءة المستقبل، من خلال ما هو متوفّر من معلومات عن هذا الواقع وعن القوى المؤثّرة سلباً أو إيجاباً فيه. في هذا السياق، فإن الوقائع العربية الراهنة تسير في تداعياتها إلى احتمالاتٍ لا تبشِّر بالخير، ما لم يتمّ وقف عناصرها السلبية. قد يرى البعض أنَّ عنوان تحدّيات هذه المرحلة يجب أن يتمحور حول مسألة الحرّية، إنْ كان ذلك في حرّية الوطن من الاحتلال أو حرّية المواطن من الاستبداد الداخلي. لكن رغم صحّة هذا الأمر من الناحية المبدئية، فإن أساس المشكلة في الواقع العربي الراهن، هو تراجع مفهوم «الوطن» وتعثر تطبيق حق «المواطنة». ولعلّ ما يحدث في العراق والسودان واليمن ولبنان، أمثلة حيّة على مكمن المشكلة السائدة في المجتمع العربي.

إنّ احتلال أي بلد في العالم ليس ناجماً عن قوّة المحتل وجبروته فحسب، بل أيضاً عن ضعفٍ في جسم البلد الذي خضع للاحتلال، وهو أمر بات يُعرف بمصطلح «القابليّة للاستعمار أو الاحتلال». وبالتالي فإن كلاً من العنصريْن (قوّة الغازي وضعف المغزوّ) يؤدّي إلى تقوية الآخر. هكذا كان الحال في الحروب العربية ــ الإسرائيلية، وما سبقها مطلع القرن العشرين من حقبة الاستعمار الأوروبي عقب الحرب العالمية الأولى.

إذن، الاحتلال نتيجة، وليس هو السبب حصراً لمأساةٍ عربية هنا أو هناك. ومواجهة الاحتلال لا تكون فقط عسكرية وعمليات ضدّ الجيش المحتل، بل أيضاً (وربما الأهم) في إسقاط الأهداف السياسية للمحتل، وفي بناء قوّة ذاتيّة تنهي عناصر الضعف التي فتحت الباب لنير الاحتلال.

إنَّ الضعف العربي المتراكم منذ مطلع القرن العشرين الماضي، هو بناء تدريجي كانت أسسه انعدام التوافق على مفهوم «الأمّة العربية»، بعد انتهاء الحقبة العثمانية، وبالتالي تجزئة المستعمر الأوروبي للمنطقة العربية، وقيام أوطان غاب فيها الولاء الوطني الواحد، وسادت في معظمها أوضاع طائفيّة وقبليّة، فامتزجت التجزئة العربيّة بين الأوطان مع الانقسامات الداخليّة في كلّ وطن!

لقد كان ممكناً أن تعيش البلاد العربيّة ظروفاً أفضل، لو كانت المشكلة هي غياب التنسيق والتضامن فيما بينها فقط، لكن عمق الأزمة الرّاهنة يكمن في تراكم التجزئة مع الخلل في البناء الدّاخلي، حيث الفقر وندرة العدالة، وارتفاع نسبة الأميّة ومحدوديّة فرص العمل، وزيادة هجرة الكفاءات لخارج الأوطان العربية. المنطقة العربية الآن، في حالة شبيهة بما حدث مطلع القرن العشرين، من إعادة رسم الخرائط السّياسية والجغرافية لبلدان المنطقة، في ظلّ الهيمنة الخارجية عليها وعلى مقدّراتها. وهناك في الأفق، مشاريع أجنبية لعدد من بلدان المنطقة، تقوم على إعادة تركيبها بأطر سياسيّة ودستوريّة جديدة تحمل الشكل الفيدرالي الديمقراطي، لكنّها تتضمن بذور التفكّك إلى كانتونات متصارعة، في ظلّ الانقسامات الداخليّة والدور الإسرائيلي الشّغال، في الجانبين الأميركي والمحلّي العربي، لدفع الواقع العربي والمشروع الأميركي إلى مشاريع إسرائيلية لحروب أهليّة عربيّة شاملة.

إنَّ إسرائيل هي في قلب المنطقة العربية ولها طموحات إقليمية تتجاوز حتّى المشاريع الأميركية، رغم توافق المصالح أحياناً مع واشنطن. ولا يعقل أن تكون إسرائيل فاعلة في أميركا وأوروبا وأفريقيا وشرق آسيا، ولا تكون كذلك في محيطها الإقليمي الذي منه انتزعت الأرض، وعليه تريد بناء إمبراطوريتها الخاصّة. وكم هو مؤسف أن تكون الخيارات المستقبليّة للمنطقة قائمة على واحدٍ من مشروعين فقط: مشروع حزب العمّال الإسرائيلي المدعوم أميركيّاً والقائم على نظام شرق أوسطي جديد وصوغ كيانات فدرالية داخليّة، أو مشروع حزب الليكود الإسرائيلي العامل من أجل حروب أهلية عربيّة، والذي يستهدف قطف ثمار الزّرع الأميركي الحاصل منذ مطلع القرن الجديد في المنطقة!

هناك حاجةٌ عربيّة قصوى لوقفةٍ مع النفس قبل فوات الأوان، ولفكر عربي جامع يتجاوز الإقليمية والطائفيّة والمذهبيّة.. وهناك ضرورةٌ عربيّة وإسلاميّة للتمييز بين من يقاوم الاحتلال وأهدافه فعلاً، في المكان الصحيح وبالأسلوب السليم، وبين من يخدم سياسياً المحتل، وربما أيضاً مشاريع الحروب الأهليّة العربيّة..

هناك حاجةٌ لبناء عربي جديد، يجمع بين الفهم السليم للأمّة العربية الواحدة القائمة على خصوصيات متنوعة، وبين الولاء للوطن الواحد القائم على أسس سليمة في الحكم والمواطنة.. وهناك حاجة للاتفاق على «البوصلة المشتركة»، كأساس لإنقاذ الأمة من حال الضياع!

 

Email