اختناق المفاوضات في كواليس الصفقات

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتراكم وتتواتر منذ شهرين تقريباً، جملة من المعلومات الواردة من واشنطن، عبر المسارب الدبلوماسية المختلفة، تتحدث عن رؤية أميركية جديدة لإحداث تحول كبير في مسار التسوية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، تحت عنوان «صفقة شاملة» للتسوية، بعد انسداد أفقها وفشل المفاوضات على مسارها المباشر وغير المباشر، في تحقيق اختراق جدي ولو بالحد الأدنى.

وقد زكى العديد من المصادر العربية وغير العربية المعلومات إياها، وبادر بعض الجهات الأميركية والإسرائيلية للإفصاح عنها، أو على عناوين هامة منها وتسريبها لوسائل الإعلام الدولية والإسرائيلية، خصوصاً بعد الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لواشنطن، والتي عاد منها إلى فلسطين المحتلة كالطاووس، بعد أن حصل وحمل معه «سلة جديدة من الإغراءات» الأميركية بجوانبها المختلفة؛ المادية والعسكرية وحتى السياسية.

فالمعلومات الجارية بأن واشنطن عرضت على تل أبيب صفقة تتضمن قيام إسرائيل بتمديد فترة تجميد الاستيطان، مقابل الحصول على العديد من المزايا والمنافع، أولها حصول إسرائيل على ‬20 طائرة حربية من طراز «أف ؟ ‬15» المعروفة بـ«الشبح»، والتي تتميز بالقدرة على مراوغة وصد الرادارات اللاقطة لحركة الطيران الحربي، وذلك بالإضافة إلى ‬20 طائرة من الطراز نفسه سبق أن خصصتها واشنطن لدولة الاحتلال الصهيوني. وثانيها توقيع اتفاقية دفاع مشترك (إسرائيلية/ أميركية) في حالة التوصل إلى اتفاق السلام (الإسرائيلي/ الفلسطيني) المنشود أميركياً، تتضمن تعهداً أميركياً إضافياً بحماية «أمن الدولة العبرية».

وثالثها استخدام واشنطن لحق النقض (الفيتو) لإسقاط أي مشروع قرار مناهض لإسرائيل يتم تقديمه في مجلس الأمن الدولي، أو حتى في المؤسسات الدولية المختلفة، من قبل أي مجموعة دولية، وذلك بما يشمل أي مبادرات تقدم رؤية سياسية مغايرة لما هو متفق عليه أميركياً وإسرائيليا، والتصدي لأي محاولة فلسطينية من طرف واحد لإقامة دولة مستقلة، كما يهدد بعض مصادر القرار في السلطة الفلسطينية، التي بدأت تتحدث عن جملة من البدائل من بينها إحالة ملف التسوية بكامله إلى مجلس الأمن.

فما هي علائم وخطوط الرؤية الأميركية الجديدة المعنونة بـ«الصفقة الشاملة»، والتي قدمت الإدارة الأميركية من أجلها سلة الإغراءات الواردة أعلاه للدولة العبرية الصهيونية؟ وهل يمكن لها أن «تشيل الزير من البير» على حد تعبير المثل الشعبي الفلسطيني، أم أنها لن تغير حقيقة ما يجري على الأرض في ظل الموقف الأميركي المنحاز والبعيد عن التوازن، والذي لا يصلح أساسا لتأهيل الولايات المتحدة للعب دور فعّال لإقرار سلام حقيقي في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، عماده قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة؟!

إن الدلائل والمؤشرات، وعلى أكثر من صعيد، تشير بالفعل لوجود تفاهمات إسرائيلية أميركية تمت مؤخراً قبل زيارة نتنياهو الأخيرة للولايات المتحدة، وقد أُنضجت تلك التفاهمات بعد انتهاء زيارة الأخير، بما فيها قبول الولايات المتحدة بإدارة العملية التفاوضيه الإسرائيلية/ الفلسطينية، انطلاقاً من الإقرار بإسرائيل كدولة يهودية، وعلى الأخذ في الحسبان «الحقائق» الاستيطانية التوسعية التي أقامتها إسرائيل منذ احتلال عام ‬1967 وحتى الآن، وعلى ضرورة بقاء سيطرة إسرائيل على الحدود مع الأردن وعلى الأغوار حتى بعد قيام دولة فلسطينية، وعلى إقامة ترتيبات أمنية تحفظ أمن ودور وسلام إسرائيل في المستقبل، إضافة إلى الحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي.

 كما أن الولايات المتحدة ستقوم بموجب «الصفقة الشاملة»، بتعميم خارطة حديثة للحدود الدائمة للدولة الفلسطينية وإسرائيل، تستجيب للمطالب الأمنية الإسرائيلية التي تنادي بها حكومة نتنياهو، وهو ما يتضمن تعديلات على مساحات معينة من الأراضي المحتلة عام ‬1967، تصل نسبتها إلى ‬7٪ من مساحة الضفة الغربية ما عدا القدس الشرقية، بحيث تكسب إسرائيل المزيد من ضمانات الأمن عبر ضم ومبادلة الكتل الكبرى ومواقع التلال والمرتفعات الاستراتيجية في عموم جبال الضفة الغربية، والحوض المائي الواقع شمال الضفة الغربية، مقابل إخلاء عشرات النقاط الاستيطانية، إلى جانب مستعمرتين كبيرتين في الضفة الغربية هما مستعمرة «غوش عتصيون» التي يقطنها ثمانية آلاف مستوطن، ومستعمرة «أريئيل» غرب رام الله والتي يقطنها عشرين ألف مستوطن.

 وبذلك، فإن الصفقة الأميركية للحل الشامل، نسفت من جديد مبدأ التفكيك الكامل للمستعمرات المقامة فوق الأرض المحتلة عام ‬1967، ودعت لتفكيك بعض منها وضم بعضها الآخر، وبقاء بعضها في إطار السيادة الإسرائيلية لفترة انتقالية تتراوح بين ‬30 و‬50 عاماً، مع إمكانية إعادة التفاوض لاحقاً لجهة المفاضلة بين خيار إخلاء هذه المستعمرات لصالح الدولة الفلسطينية، أو خيار إبقائها على ما هي عليه. إضافة للتأكيد على استمرار وجوده قوات الاحتلال لفترة انتقالية في مناطق مختلفة من الضفة الغربية، ثم العمل بعد ذلك (وفقاً لقناعة الإسرائيليين) على تخصيص عددها وحجمها تدريجياً.

 وعليه فإن التفاوض من الوجهة الأميركية، وبعد إقرار الضمانات الأميركية والتفاهمات الأخيرة المقدمة لإسرائيل، يجعل المفاوض الفلسطيني في وضع سيئ جداً وخطر جداً، لأنه لن يفاوض بعد الآن إسرائيل فقط، وإنما إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأميركية، وهو يعرف أن إسرائيل حصلت على كل ذلك مقابل تجميد الاستيطان لمدة ثلاثة أشهر، فعلى ماذا ستحصل إسرائيل مقابل إنجاز معاهدة سلام شاملة؟وفي المحصلة النهائية، فإن الفلسطينيين أمام مرحلة سياسية جديدة، وينتظرهم المزيد من المخاطر الجسيمة حال وقوعهم في الفخ المعد لهم، والتقاطهم للطعم القاتل، بالعودة لطاولة المفاوضات وفق الرؤية الأميركية المشار إليها، خصوصاً مع وضعهم المتفكك ووجود الانقسام الداخلي في صفوفهم منذ عدة سنوات. 

 

Email