أمة في التيه التاريخي

ت + ت - الحجم الطبيعي

القاعدة السائدة لدى مراكز صناعة القرار الأممي، وعند كل السياسيين والمحللين والمراقبين والمشتغلين بالشأن السياسي العرب، وحتى عند اللبنانيين أنفسهم، أن لبنان لا يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه، ولا يتدبر شؤونه الداخلية ويدير اختلافاته عبر حواراته، إذ لابد من وجود قوة خارجية إقليمية كانت أو دولية تبسط نفوذها وهيمنتها على قراره السياسي والإنمائي والاقتصادي، وتفرض توجهات الحياة وضبط إيقاعها وإدارة الأزمات الداخلية التي عادة ما تنشأ كما التغيرات المناخية، فالقاعدة - أيضا - تقول إن كل تسوية في لبنان هي هدنة مؤقتة بين حرب وحرب.

يبدو أننا نظلم لبنان كثيراً في هذه القراءة وذاك الاستنتاج، ويبدو أننا نتجاوز في أحكامنا، إذ اتضح أن لبنان ليس استثناء من كل شعوب الأمة العربية، وليس وحده في حاجة إلى وصاية ليست بالضرورة تدخلاً خارجياً، ولكن وصاية العقل والفكر من الحكماء أصحاب الفكر والعقل والبصيرة، ومن يحملون تاريخ الأمة، وإرثها المعرفي والثقافي والفكري، وتجليات مخزونها من التسامح والحب والتقارب والاعتزاز بالهوية العربية والانتماء القومي، يحملونه مرتكزات لمساراتها النضالية، وأساساً لبقائها فاعلة منتجة مؤثرة بين دول العالم، وليست وصاية السفهاء والحمقى والطغاة والمزايدين والمجرمين وطلاب النفوذ من أصحاب الشعارات الحزبية، والعقائد الأيديولوجية، فهؤلاء يجب أن يتلاشوا عن المشهد تماماً، إن لم يقزّموا ويتم إلغاؤهم لصالح النخب المعقلنة والمعلمنة والواعية بحركة التاريخ، وأنه لايعود إلى الوراء في المطلق، وصناعته تكون عادة منتج عقل ورؤية وبرامج وخطط تنحو في توجهات صياغة عقل الإنسان وتحريره من سرابيل الجهل والتخلف والأمية.

لبنان ليس استثناء، فقد أثبتت الأيام والأحداث وما جرى ويجري على الأرض العربية في ليبيا ومصر والعراق وسورية ولبنان وكثير من الجغرافيا العربية أننا أمة معطوبة بأدوات التخلف والجهل والاتكالية والعجز والهروب والغباء السياسي والتنموي، وبلادة العقل مما يستدعي أن تقوم وصاية على من ساقتهم الأقدار والحظوظ العمياء إلى مراكز الحكم ومواقع القرار في الهرم السياسي ببعض الدول العربية، ونحسب أن تقوم هذه الوصاية من خلال عقل ورؤية المفكر العربي الذي أبعد تماماً من المشاركة في صناعة القرار منذ البلاغ الأول لأول ثورة قامت في الوطن العربي بزعامة حسني الزعيم في سورية، وتحول موقع المفكر بعدها من عقل رؤيوي مستشرف محلل قارئ إلى نزيل سجون وأقبية ومصحات عقلية، أو مقتعد أرصفة شوارع عواصم العالم الكبرى يمضغ القلق والحزن والسأم، ويقتات الوجع والانهيارات والتفتت، ويبكي أمة نخرتها الداءات، وانتشرت في جسمها الأمراض.

لقد وصلت الأمة إلى منحدرات مخيفة وقاتلة في واقعها وحاضرها السياسي والتنموي، وصار الجهل والتخلف والأمية عناوين فضائها الاجتماعي، ومحركات توجهاتها، وبالتأكيد لا تقود إلى منتج حضاري، ولا إلى واقع ومستقبل أجيال، ولكنه العطب القاتل، وحوارات الدم والرصاص، وثقافة الشعوبية والطائفية والمذهبية، وهذا يفضي بالضرورة الحتمية إلى نهاية أمة كان اسمها "الأمة العربية".
 

Email