منازل الذاكرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

قالت لي صديقتي منذ سنوات طويلة عندما انتقلنا إلى منزلنا الجديد: «البيوت لا تصير منازل حتى نسكنها، قبل ذلك هي مجرد أمكنة لا تعنينا»، يومها كنت أقول لها إنني أشتاق لبيتنا القديم وأريد العودة إليه، وإنني لم آلف هذا البيت بعد، يومها طرف في ذاكرتي بيت أبي تمام الشهير:

كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى

                   وحنينُــه أبــداً لأوّلِ منــــزل

الحنين إذاً، هو البصمة الوراثية للذاكرة الإنسانية، هو ما يميزنا عن بقية المخلوقات، وما يجعل للعلاقات سجلاً وللأمكنة تاريخاً، وللذكريات حافظة ممتلئة بالوجوه والأصوات والألوان والأسماء والمناسبات والحوادث، ولذلك سيظل ذلك البيت يعن في الذاكرة ما حيينا، ويتململ فينا كجرح أو كأمنية أينما توجهنا؛ لأنه عقد اتفاقاً مع أيام وفواصل لا تمحى في سيرتنا الخاصة.

يربط ذلك الاتفاق برباط لا ينسى بيننا وبين إنسان قريب جداً، أو بتفصيل أو حدث أو شعور عشناه للمرة الأولى ولن يتكرر، فنحن لا نولد مرتين ولا ننسى طعم ألم الموت الأول أبداً، لذلك لا ننسى البيت الذي ولدنا فيه، فحفظ صرختنا ورائحة ولادتنا، أو ولوجنا الأول لعالم المدرسة الذي مر من بوابته الخشبية الصغيرة، وهناك في أحد جوانبه، حيث زلَّت بنا قدم تتهجى خطواتها الأولى فارتطم رأسنا الصغير بطرف حاد ترك جرحاً في أعلى الحاجب الأيمن لا نزال نستشعره كلما تحسسنا ذلك المكان، وفي بيتنا الأول عرفنا فرحة أن يكون لنا أخ للمرة الأولى، عندما استقبل ذلك البيت المولود الثاني في العائلة.

ومازلت كلما تناولنا وجبة كانت تعدها جدتي، تضج تلك الرائحة القديمة وتعبق مخيلتي بروائح مطبخها ووصفاتها الشهية، وأجدني مقبلة من جهة البحر ظهراً، أركض صوب البيت، يستوقفني شيخ طاعن في السن، أعرفه جيداً، يناديني باسمي فأقف، يسألني: ماذا طبخت جدتك اليوم.. أضحك، وأقول: أنت تعرف، فالرائحة تملأ الحي، يبتسم ويقول: قولي لها أن ترسل لي قليلاً من طبخها!

Email