الدنيا من فوق..

ت + ت - الحجم الطبيعي

البارحة سألتني صديقة عن أول كتاب اقتنيته في حياتي، وقد كتبت حول هذا الموضوع أكثر من مرة، أولاً لاحتفائي بذاكرتي، وثانياً لأنني شغوفة حد الذهول بتلك الأشياء التي حدثت لنا أو في الحياة من حولنا لأول مرة، وثالثاً لأن اقتناء فتاة صغيرة في الصف الرابع الابتدائي لكتاب أياً كان ثمنه، في تلك السنوات البعيدة لم يكن من الحوادث المتكررة في بيتنا أو في الحي الذي كنت أقطنه، كان كل الصغار الذين تم تسجيلهم في المدرسة الحكومية في حينها، يكتفون بكتب المدرسة، وإذا بقي لديهم القليل من النقود فإنهم يفضلون حتماً الذهاب بها إلى دكان الحي لشراء المشروبات الغازية وبعض الحلوى والعلكة، لا أحد كان يفكر في اقتناء كتاب.

صديقتي التي سألتني، عربية تنتمي لمجتمع تُعتبر قراءة الكتب فيه ممارسة اعتيادية، ولذلك فقد امتلكت أول كتاب في حياتها وهي في الصف الثاني الابتدائي كمكافأة تفوق في المدرسة، أما الكتاب فكان عبارة عن قصة بعنوان (الدنيا من فوق) كيف ترى فتاة صغيرة الدنيا من فوق أرجوحة ترتفع بها عالياً! المفارقة ليست في أي عمر اقتنينا أول كتاب، ولكن في نوعية الكتاب الذي اقتنيناه أنا وهي.

ففي حين حصلت صديقتي التي كانت في تلك السنوات، تعيش في مدينة عربية بعيدة جداً من هنا، على أول كتاب كهدية من المدرسة، حول فتاة ترى الدنيا من فوق، اجتهدت أنا في أن أجمع مصروفاً لفترة من الزمن لأشتري كتاباً رأيته بين يدي زميلتي التي كانت تجلس بقربي في الفصل، ولقد بدا لي امتلاكها كتاباً خاصاً بها أمراً غير عادل، إذ لم أتمكن من امتلاك كتاب مثله، وحين امتلكته كان يدور حول حياة امرأة قررت أن تعيش الحياة مرتفعة فوق كل مصاعبها وتحيزاتها وعنصريتها، ثقافة الحياة بمنطق الارتفاع! في اليوم التاريخي الذي اشتريت فيه الكتاب، اصطحبتني جدتي للمكتبة، أخذنا خالي في سيارة أجرة، وكان معي اثنين من إخوتي، أتذكر مكتبة (دار الحكمة) بموقعها القديم بجوار البنك البريطاني المواجه لميدان جمال عبدالناصر (ميدان بني ياس حالياً) كانت مكتبة صغيرة، رفوف كتبها الخشبية الداكنة تصل للسقف حسب ذاكرة تلك الطفلة المنبهرة، كانت مليئة بالكتب ولا شيء آخر، لا ألعاب ولا قرطاسية، ولا ماكينة تبيع الكابوتشينو، لا شيء سوى الكتب ورائحة الورق والخشب وبائع عربي يعرف كل كتاب هناك.

كان الكتاب الذي ذهبت لأشتريه تحت تأثير الغيرة الطفولية يدور حول سيرة صلاح الدين الأيوبي، لكنني هناك غيرت رأيي تماماً حينما قرأت على غلاف كتيب صغير عنوان (ماري كوري أول امرأة تنال جائزة نوبل مرتين)، ولم أكن يومها أعرف ماري كوري ولا ماذا تعني جائزة نوبل، فاشتريت الكتاب دون تردد، كأنني اكتشفت فجأة أن القراءة ليست إلا شغف المعرفة أولاً وأخيراً!

Email