إنهم لا يغرقون فهناك قراء دائماً!

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليس في الأمر أي نوع من المباهاة، لكنه التأمل العميق في الكلام الذي يصلك من قرائك، إنك تنظر لهذا الكلام باعتباره فعلاً حقيقياً، يعمل على إنتاج حياة أخرى لك ولنصك الذي كتبته! فحين يقول لك أحدهم (لقد استمتعت بما قرأته لك اليوم)، أو حين يكتب لك أحدهم من بلاد بعيدة (يا للمصادفة لقد كنت أقرأ رواية «1984»، لأعد تقريراً حول تحولات الديمقراطية في الجزائر، وفاجأتني بأنك تحدثت عن الرواية نفسها في مقال اليوم)، أو تقول لك سيدة لم تلتقها يوماً (مقالاتك تستثير ذاكرتي الخاملة)، فماذا يعني لك كل هذا وغيره؟

هل تسأل نفسك: لماذا يكتب لك القراء كلاماً كثيراً وجميلاً جداً؟، لأنهم يحبون ما تكتب بلا شك، ولأنهم اعتادوا قراءتك كل صباح، فارتبطوا بهذا الحديث اليومي معك، أو لأنهم يجدون في ما تكتب صدى لأفكارهم وقناعاتهم، وقد يفعلون ذلك لأنهم يتعرفون إلى بعض العالم من خلالك، لكن ذلك لا يمنع أن يخطر لأحدهم أن يستفزك يوماً ببعض الهجوم، إنه يجرب صبرك أو يختبر إخلاصك للأفكار التي تنادي بها، قد لا يجادلك، فهو لا يقوى على مجادلة كاتب، لكنه يستفزك ويمضي، وربما يقف في زاوية بعيدة ليراقبك دون أن تشعر به!

قد يتفوق القارئ على الكاتب أحياناً، تذكر ذلك، كما قد يسبق النص كاتبه مراراً، فاترك له هذه المساحة الصغيرة، تذكر حقه في أن يقول رأيه، كما تنص مواثيق حقوق الإنسان التي تتشدق بها، تذكر أن الإنسانية لم تخترعها للكتاب فقط، فإذا لم تستفز غرورك وتفعل ما يفعله المستَفَزون من أصحاب الهالات، فسيرى فيك قارئك «مخْلصاً» حقيقياً لأفكارك «بتسكين حرف الخاء»، وسيستمر في إخلاصه لك، إذن فأنت وحظك من المصداقية وسعة الصدر وقوة الذاكرة!

تذكر فيلسوفك المفضل الذي أعلن وفاة المؤلفين، ونصب القراء أوصياء على النصوص، تذكر (رولان بارت)، الذي انتزع النص من عهدتك وسلمه للقارئ، قائلاً له: تفضل قل ما تشاء! وإذ تستحضر هذه الصورة الذهنية، فإنك تبادر قراءك الذين يمتدحونك قائلاً: (هذا لطف منكم، أنا أكتب بشكل جيد، لأنكم قراء مخلصون، فلولا القارئ ما استمر الكاتب يوماً)!

يقودنا ميلان كونديرا الكاتب التشيكي الذي لا يفضله كثير من قراء العربية، لصعوبة، وربما لغرابة أفكاره، وربما لأن الترجمة قد ظلمته كثيراً، إلى معنى إنساني عميق في العلاقة بين الكاتب والقارئ، فيقول: (نحن نؤلف الكتب لأن أبناءنا لا يهتمون بنا، ونخاطب عالماً مجهولاً من القراء، لأن زوجاتنا يغلقن آذانهن عندما نكلمهن). هذا يعني أن هؤلاء القراء ينقذون الكاتب حين يغرقه المقربون في التجاهل واللامبالاة، حين لا يهتم أبناؤه أو زوجته بما يقول! أليس ذلك جديراً بالتأمل طويلاً؟!

Email