فكِّر بغيرك

ت + ت - الحجم الطبيعي

في واحدة من أجمل قصائده، كتب محمود درويش:

وأنت تعدّ فطورك، فكّر بغيرك

لا تنسَ قوت الحمام‎

وأنت تخوض حروبك فكّر بغيرك

‏‎لا تنسَ من يطلبون السلام‎

وأنت تسدّد فاتورة الماء، فكّر بغيرك

‏‎من يرضعون الغمام

وانت تعود إلى البيت، بيتك، فكّر بغيرك

‏‎لا تنسَ شعب الخيام

وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكّر بغيرك

‏‎ثمّة من لم يجد حيّزاً للمنام

إلى آخر القصيدة...

فكر بغيرك، قل لنفسك سأكون سبباً في إسعاد فلان، في إنقاذه من هذا البؤس، في تغيير مصيره، قل لنفسك، سأغير حياة أحدهم، وسيختار لك القدر هذا (الأحدهم) ربما، وربما اخترته أنت بكامل وعيك، لا تنسَ أن هناك آخرين كثر يشاركونك المشي على الأرض نفسها، والتنفس من ذات الهواء، ومثلك هم يحلمون كما تحلم، ولديهم مثلك قائمة طويلة من الرغبات والاحتياجات، لكنهم ليسوا بمثل قدرتك أو ظروفك للوصول إليها وتحقيقها.

قد تكمن احتياجات بعضهم في مبلغ بسيط لإجراء عملية جراحية، تنقله من العجز إلى المقدرة، فيصير مثلك متمكناً من إعالة نفسه، والحياة بكامل أهليته، كما أنت دون عجز، قد يكون بحاجة لمن يدله على حقوقه، ليصير لديه بيت وزوجة وعمل، قد يكون لديك القدرة لتتبنى يتيماً تعلمه مع أولادك، فتنقله من مجرد رقم في دار الأيتام، إلى إنسان يتنافس في ساحات الحياة على أعظم الفرص.

نعم، أنت لست مسؤولاً عن أحد، تكفيك أعباؤك ومسؤولياتك، لديك ما يكفي من التفكير في أولادك ومستقبلهم، وأهلك والتزاماتك تجاههم، لن يطالبك أحد بأن تعطي أحداً ليس من ضمن مسؤولياتك، وابتداء، فنحن نعيش في زمن صار الناس فيه يتخلون عن التزاماتهم الأصلية والثابتة شرعاً وقانوناً.

وستسمع من يقول لك إن الإنسان ليس عليه أن يفكر بغيره، فقد قرأت شيئاً كهذا منذ مدة، وتعجبت من هذه الدعوة، إذ كيف يحدث أن يتخلى الإنسان نهائياً عن إنسانيته تجاه أخيه الإنسان، إذا كان قادراً ومقتدراً ومؤمناً بأننا نرتفع على بشريتنا بالعطاء، لنستحق إنسانيتنا فعلاً؟. وأنت تعد فطورك - يقول لك محمود درويش - فكر بغيرك؟، فكّر، فهناك كثيرون حولك بإمكانك أن تغير حياتهم، أن تعبر بهم إلى الضفة الأخرى من الحياة بأقل مما تتصور، فقط تحتاج لأن تملك نفساً عالية مؤمنة بأن العطاء هو ما يمنحك صفتك الإنسانية، لا أي شيء آخر.

Email