المدن التي تعلّمنا الحكمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

على جسر تشارلز الشهير في مدينة براغ يعبر آلاف المشاة يومياً، لا يمكنك أن تحظى بدقيقة واحدة يمتد فيها بصرك من أول الجسر حتى نهايته من دون أن يصطدم بآلاف الأجساد العابرة والآتية من كل الدنيا، فعلى ضفتي نهر فلتافا، تقع عاصمة التشيك، وعلى مياه ذلك النهر يتمدد 14 جسراً ضخماً ومهول البناء، وحده جسر تشارلز من بينها جميعاً يحظى بالشهرة والإقبال نظراً لقيمته التاريخية، فقد شيّد سنة 1357، وفي طريقك لساحة المدينة القديمة، أو قلعة براغ الأشهر، لا بد لك من السير فوقه، عبر طريق عرف منذ أزمنة طويلة بالطريق الملكي، مواكب الملوك كانت تعبره للقصور والقلاع الفائقة الجمال والبذخ!

انتهى ذلك الزمن، براغ اليوم مدينة تعتاش على ماضيها، على توقيعات الزمن وسيمفونيات الموسيقيين، والقلاع، والتماثيل، والقصور، والحدائق، والمدن المعلقة على تلالها المحيطة، حتى وأنت تجوب النهر في جولة نهرية والدليل يشرح لك ويشير إلى ذاك البناء وذلك القصر، فإن تلك الأبهة الخاطفة للنظر ليست سوى ماض تحول اليوم إلى مسارح ومتاحف ومؤسسات حكومية، الأمر نفسه تلمسه وأنت تعبر مياه وقنوات مدينة فينيسيا الإيطالية وبروج البلجيكية، وبودابست وغيرها، هذه عظمة بنيت في أزمنة سابقة وبعيدة، باقية كما هي بكل عنفوانها، لكن شيئاً من العظمة لم تضفه الأجيال الجديدة في هذه المدن، هذا الأمر يطرح على زمن الحضارة أسئلة في غاية الصعوبة!!

مع ذلك فإن هذه المدن تتيح عبر ممراتها البشرية، عبر الجسور ومياه الأنهار وطرقات المدن التاريخية فرصة ذهبية تلتقي فيها أجيال لا حصر لها من البشر، يأتون من كل الأطياف البشرية، من كل الثقافات، الديانات، المعتقدات، الألوان، الأشكال، المستويات الاقتصادية والحضارية، بشر لا يربط بينهم سوى رابط الإنسانية فقط، يمشون بالتوازي مع بعضهم بعضاً، يتقاطعون في الأزقة وفي الأسواق والمتاحف والمطاعم وعلى تلك الجسور، يبحثون عن لغة توحدهم ليصلوا لقلب المعرفة، ليحصلوا على المعلومة والفكرة، لا يتصارعون، ولا يكرهون بعضهم، ولا يمارسون أي شكل من أشكال الإقصاء أو الإلغاء أو التكفير أو الرغبة في القتل والإبادة، إنهم يمشون حذو بعضهم، كلّ بضجيجه وضحكه ولغته وثيابه، يمضون لبهجتهم، بينما تمضي المدينة لتاريخها!!

نحتاج دوماً لمدن محايدة تعلّم الإنسان كيف يعيش مع غيره بسلام وتفاهم -عندما فشل كل شيء في تعليمه- مدن يسير فيها الجميع ليستمتع بفرص الحياة لا ليقتلها ويفني الآخرين!!

Email