ركلتني الصدفة وحدها إلى رحلة حلقت بي بعيدا آلاف الأميال عن بيتي الذي لم أعرف مكانا غيره حتى ساعتها، واعتراني الانتشاء، بل أقسم أن سعادة عارمة انتابتني بعد أن سنحت لي فرصة غُزلت خيوطها بعناية فائقة من قبل الزميل العزيز نور سليمان، لأعبث بكل ما أوتيت من قوة، بكل تفاصيل هذه الاستراحة القصيرة، بعيداً عن منزلقات الشرق الأوسط وخيباته. ورغم أن مساحة الأربعة أيام لاستشراف عوالم كوريا الجنوبية غير كافية لتلمس قصّة الصعود الأسطوري من ركام الهزيمة، إلا أن التجربة كانت جديرة بالخوض، أقلها بالنسبة لي ساعتها، وليتها لم تكن!
لم أعبأ كثيراً بالتحضير للسفر حملت نفسي والحقيبة إلى الطائرة، ولأن الرحلة تستغرق نحو ثماني ساعات، تسللت يدي إلى أحد الكتب المصورة «المسروقة» لتمضية الوقت الثقيل. تسللت يداي إلى الكتاب «إياه» وإذا به «الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجيا الوسطية» للراحل نصر حامد أبو زيد، والذي كان حينها غاب عن عالمنا قبل يوم واحد فقط من يوم السفر المحدد، طردت هواجس التشاؤم وقلت صدفة، وذكرتني هذه الصدفة اللعينة بصديقي أحمد الغندور، الذي استطاع الاحتفاظ بحياته طوال 3 أعوام، والذود بها عن رصاص نبيه بري، بل وأكثر من ذلك، نجا مرتين من موت محقق خلال حصار عرفات قبل أن يفقدها أثناء صنعه الشاي برصاصة انطلقت خطأ من بندقيته.
على أي حال، قلبت صفحات إعادة إنشاء الخطاب الديني، وبحياد تام استمعت إلى المساجلات مع عبد الصبور شاهين ومحمد البلتاجي ومأمون سلامة قبل أن أتذكر أني في استراحة من هذا العالم، وبدلا من نقد التراث والتنقيب في الأصول، لما لا أتهيأ للخطاب الكوري الجديد. ألقيت الأوراق ومسكت في زمام الريموت كونترول مقلباً آخر صيحات هوليود على شاشة اللمس، ولا اعرف لماذا نقرت على فيلم «كارتيك كول كارتك» الهندي؟، والذي لم أكن أعرف عنه شيئا قط، وبملاحقة أحداث الفيلم وجدت نفسي أمام شخصية شيزوفرينية بائسة رهينة محابس لا محبسين فقط.
وصلت الرحلة أخيراً، وكان لغياب اللغة الانجليزية، أولى وقعات الصدمة، فالتواصل سيصبح جد مستحيل، ومع الانتهاء من تفاصيل المطارات الرتيبة، كان دليلنا (لأن الرحلة رسميا رحلة عمل) ينتظرنا بابتسامته الآسيوية البلهاء، دقائق حتى وجدت نفسي وأنا أقلب البصر في هذا العالم المليء بالرقائق الالكترونية، مدفوعا بين كومة من البشر إلى خارج المطار واستقل سيارة أجرة، أدركت سريعا أنني عدت إلى حماقاتي، ركبت السيارة الخطأ، وبحركة التفافية قلت للسائق، ستوب، لم يجب، بينغ بونغ، كيف سيفهم أنني ضحيته؟.
وبعد جهد جهيد، توقفت سيارة الأجرة لأعود سيرا على الأقدام أجر بلاهتي وحقيبتي بحثا عن أصدقائي العرب. في قلب سيئول أو سوول بالكورية تذوقت الشاي المسمى الفصول الخمسة، وحاولت أن اقنع صديقا كوريا تعرفت عليه للتو وكان يجيد الانجليزية ان الفصول أربعة وليست خمسة، لكن ما الفائدة، فهذا شايهم، وأهل مكة أدرى بشعابها. الكوريون لا يتحدثون كثيراً عن الحرب وقهر اليابان وتبجح الصين، منغمسون في رقائقهم الالكترونية، ويعيشون طاقة «يونغ» بكل دفئها ويحذرون تلبد «يين» وسكينته، الماضي المجيد وقيم العائلة في المتاحف فقط، أما الانغماس في حضارة العمل والتكنولوجيا فبدت أكثر هروبا إلى الأمام.
وجاءت الوقيعة، كان بين ضيوف الوفد عصابة من الإسرائيليين، حاولوا التحرش بوطنيتنا، ثارت غضبة العربي المعهودة منذ زمن عنترة، لم تنفع توسلات الشركة المضيفة في البداية، وفي النهاية سُمح لنا بقضاء أوقات أطول خارج قاعات الاجتماع والتدخين لأكثر من مرة عن الوقت المسموح به، تمت رشوتنا بامتياز وقلنا حسنا لن نتعامل معهم وكفى. النهاية، سيرا على الأقدام قرب متحف الملوك وسط سيئول كان مقر رئاسة الحكومة الكورية بلا حراسات، على الطرف المقابل من الشارع مدرعتان وأسلاك شائكة وعناصر من الجيش الأميركي، لحماية السفارة بضخامتها المستفزة. حتى بعيدا آلاف الأميال بدوت وكأني لم أخرج من الشرق الأوسط.