يحضرني المكان في الذاكرة متثاقلاً بعيداً في ثنايا التفاصيل، يتهادى بين سراب الهارب من نقيضه إلى نقيضه وبين العائد في الغربة وإليها، يختصرني الحنين إلى مكاني هناك، يختزلني جنيناً أولد فيه من جديد، أمسح منه صور التيه.. لن نلبس ثوب خطاياهم، أو نتجرعها مع جالوت.

أستعيد صورتي من مرايا غربتي، وأستعير بعضها مما تبقى لي، في غفلة من الزحام، إلى حكاياتي وشقشقة العصافير، إلى طريق النحل، والرعاة في السحر، صوت الناي، الشاي بالميرمية، شجر البلوط، الأزقة الضيقة والطابون والعقود المعبقة بالرطوبة، وحقنا في الرؤيا والتثنية والخروج إلى سفر الوطن.

ليس في الذاكرة متسع للغضب بعد الآن، ولولا سكّين وحشية تُتْقن فنّ البتر ما كان مكان للنسيان.. ما عاد البحر لُجيا، غريبة، غريب في الموت، غريب في ما كان أو ما سيكون، وحقيبة تتأرجح على وقع خطاي، في مسرى العودة. دقائق استحالت ساعات لا يَعُدها سوى خفقات قلب تكسرت على عتباته حسرات، لولا نسائم داعبت عروقنا بشبق ولهاث، نشتمها عبقاً، وترابها يمسح عن وجوهنا اغترابها.

أستعيد النور من الليل البهيم، أضيء به ظلام السنين، ظلام الغريبة عن أرض عرفتني وأعرفها، ألفتني وألفتها، أشحذ من الرأس والحقيبة همتي، فالآن ساعة المواجهة.. ألتقطك يا درويش وأعبر معك يا مريد، وأُبعث من سرير يا غسان، فلست المهزوم وحدي.

هناك أسطورتي، الكروم وأغصان الزيتون، سطح المنزل، نافذتي وفنجان القهوة والراديو والتراب المسحور، وأسماء راحت في الزحام والرصاص. وضحكات تبعثر صداها في ميادين عتيقة، سكنتني منذ الطفولة.

هنا، الزمان اليوم السابع، المكان ميثاق أبرام، وصيحات أشعيا ويوشع في اليوم السابع، تجمدت الشمس، لم تطلع بعد من مغربها، داوودهم يتسلح لقيامة التكوين في اليوم السابع، وعبرتُ أنا في اليوم السابع، كم أوجعتنا الأقدار، تفتأ تذكر يوسف.

هناك، الريح تعدوا في فضاء يبتلع انتصارات توهما البشر، هناك تستعيد الحضارة تعريفها وتنثره على الآخر، صباح الخير يا حبيبتي، تغسل شعرها في عيون الأمل على ضوء القمر، الحياة تولد كل يوم من جديد، تهبط كل يوم من السماء السابعة، تنظف فناء البيت، تعيد وقد التنور، تبذر الحبوب، وتعد الفطور منذ ستين عاماً ولم تزل. تنتظر بأناة عودة الغائبين.

هنا، لست منهم يا أراغون، وليسوا منا، يوم ثقيل اقترب المساء ولمع في الأفق، الموت يغزل بين الأجمات خيوطاً للكفن، إنهم هنا، لكني أنا هنا، أعرج من قاع الأرض، لن يبعثروا ألواني، أُسرع الخطى إلى بيعتي أنا، شجر اللوز، شقائق النعمان، رسائل العشاق، أطوي المسافات، أصرع وحوشهم يا دون كيخوتيه، فإنها أرضي أنا.

هناك أمي لم تتغير، تجاوزت الستين عاماً وكل نظريات العولمة، وسأظل أخجل من دمع عينيها، في مطبخها يصنع القرار الأخير، وتُتلى الوصايا: خلّف ولد، حوش مصاري، اتزعلش مرتك حرام.. بس مش ترد عليها في كل شي زي الكبش، اشتري أرض، شو بتسوي بدبي، لا تحكي في السياسة، الزاتونات يمه (يا أبني) «اصحا اهم أشي»، ومن ذيك القبيل، ومع وقد طباخ الغاز ـ الذي ابتاعه أبي حديثا، وطبعا ليس أنا- تتحفز بطوننا وترتخي آذاننا، تقاطعها، وعلى غير ميعاد، جدتي التي قاربت المائة، وتتفاخر بأنها لا تخشى المخابرات العربية، لأنها «ختيارة شو بدهم فيها» وتقول لنا:

قاقون قاومت وهدوها اليهود وإحنا هربنا من خوف ما يذبحونا في الخربة، الانكليز سلموا يافا.. الدفة (الضفة الغربية) سقطت بيوم واحد. وبذاكرة مشوشة بالكامل تجاوزت جدتي كل المنظرين بخلطها المتعمد بين حربي فلسطين وحرب السبعة وستين.

واعتبرت بقايا ذاكرتها أن الحربين استمرار لمخطط صهيوني واحد. وما أسرع ساعة الرحيل وقيامتها، الدموع، تختزل أحاديث بين وجوه مقفهرة في لحظة الوداع، تتناثر أنشودة لكل من أحبوك وأحببتهم، تستودع قطراتها في التراب وصيّة. فهناك، للأشياء قانونها، وهناك تسقط كل الفرضيات والمؤامرات، ويوشوشنا حفيف الشجر ويعدنا الحجر بغد آت.