انقاذ اليورو أم إنقاذ أوروبا

انقاذ اليورو أم إنقاذ أوروبا

ت + ت - الحجم الطبيعي

ماذا يجري في أوروبا حاليا؟ «البركان» اليوناني المالي والاقتصادي كانت ومازالت تداعياته أقوى من البركان الايسلندي.

«سحب البركان» اليوناني طالت سماء أسبانيا والبرتغال والبعض يتخوف ايضا من وصولها إلى ايطاليا وربما لاحقا غيرها من دول «أوروبا القديمة» : أسئلة عديدة تطرح فهل سيكفي قرض 120 مليار يورو على سنوات ثلاث لإنقاذ اليونان التي تعترف حكومتها ومعارضتها بالحاجة إلى إصلاحات هيكلية في العمق وتعترف ايضا ان هذه الإصلاحات ستكون موجعة اجتماعيا ومكلفة بالطبع سياسيا.

هل ستكفي الـ750 مليار يورو، مساعدات قروض وضمانات، التي أقرتها القمة الأوروبية الاستثنائية في بروكسل بمظروف مالي مشترك بين الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي على قاعدة تعاون ناشط بين المصارف المركزية الرئيسية الأوروبية، كعملية استباقية ووقائية في الوقت ذاته لاحتواء الأزمات التي تطل برأسها في أسبانيا والبرتغال كما اشرنا سابقا وتهدد دول أخرى في هذا المجال.

تقود الأزمة المستمرة إلى عدة ملاحظات:

أولا، وجود مقاربتين متناقضتين في البيت الأوروبي فيما يتعلق بكيفية التعامل مع أزمات من هذا النوع تعكسان المرجعية الفكرية السياسية والاقتصادية للحكومة القائمة تعزز كل منهما ثقافة سياسية مستقرة في المجتمع: مقاربة دول الشمال وبالأخص المانيا وهولندا ومعهما بريطانيا التي نأت بنفسها عن المساعدة كونها خارج منطقة اليورو.

تختصر هذه المقاربة بضرورة تحمل كل طرف لمسؤولياته وبالمعالجة على المستوى الوطني والتأكيد انه لا يمكن ولا يجوز المخاطرة بمساعدة من لا يملك ضمانات قوية اقتصادية تسمح بالمساعدة.

المقاربة الثانية «اوروبية» وليست «وطنية» تمثلها دول الجنوب وهي فرنسا وايطاليا واسبانيا التي تركز على اولوية التضامن لأن الأزمة القائمة تتخطى المسألة المالية وتندرج في تحدي الحفاظ على مشروعية التوحد الأوروبي واولويته خارج أي حسابات اخرى اقتصادية أو غيرها.

المعارضة ثم التردد الألماني كان بحاجة لكثير من الدبلوماسية التي تخللتها بعض الحماوة في اطار القاطرة الأوروبية التي يمثلها الثنائي الفرنسي الألماني ، إلى جانب اتصالات اميركية اجريت مع الطرف الألماني حتى يقتنع الأخير بالمشاركة في عملية التضامن والمساعدة.

ثانيا، اضطرت المستشارة الألمانية إلى ان تدفع ثمن هذا الموقف على الصعيد السياسي الداخلي انتخابيا بسبب المعارضة الشديدة للموقف الألماني «الجديد» ليس فقط في اوساط حزبها ولكن في المجتمع الألماني بشكل عام وما يفسر هذا المزاج الألماني تاريخ التضحيات الاقتصادية الكبيرة التي قدمها المواطن الألماني بغية تعزيز التنافسية على الصعيد الدولي، سواء على صعيد ساعات العمل اوسن التقاعد، من اجل اعادة اطلاق الاقتصاد الماني.

ثالثا، يزداد الخوف رغم سياسة المساعدات الوقائية من وجود عوارض المرض اليوناني في كل من البرتغال واسبانيا ويتساءل العديدون هل تكفي هذه المساعدات لمعالجة في العمق لمسببات هذه الأزمة وهي في انتشارها ام ان هنالك حاجة إلى قطيعة مع ماهو قائم.

رابعا، يرى بعض اوساط اليمين الاقتصادي الذين ينتمون إلى المدرسة النيو ليبرالية ان الأزمة اليونانية هي نتيجة السياسات التدخلية والثقافة «الدولتية» القائمة في بعض الدول الأوروبية سواء ما يتعلق بساعات العمل أو كثرة الضمانات المقدمة للعمال أو سنوات الخدمة وسن التقاعد وان المطلوب مراجعة لفلسفة النموذج الاقتصادي القائم والتحول إلى اقتصادات تشجع التنافس وتستدعي التخلي عن الكثير من المكاسب المعطاة للطبقات العمالية.

باعتبار ان النجاح الاقتصادي على الصعيد الدولي ينعكس اقتصاديا واجتماعيا لمصلحة الجميع في البلد. البعض الآخر يرى الجواب في تعزيز وتعميق عملية التوحد الأوروبي ويشير هؤلاء إلى انه من غير الممكن فعليا الحفاظ على عملة موحدة طالما ان هنالك سياسات ضرائبية مختلفة وبالتالي انه يجب ان تكون هنالك سياسة ضرائبية واحدة في دول منطقة اليورو.

كما يطرح اخرون ضرورة الاسراع في اقامة حكومة اقتصادية أوروبية أو تحديدا حاكمية اقتصادية اذ لا يمكن التوحد النقدي مع ابقاء القرار الاقتصادي وطنيا ايا كانت مستويات التنسيق بين أطرافه ويرى آخرون ان المطلوب الذهاب ابعد من ذلك من خلال التعزيز الفعلي لانشاء السوق الواحدة التي تشجع على مستوى اعلى من الحراك على صعيد العمل وعناصر الإنتاج الأخرى.

فاليورو كما يقول ماريو مونتي مفوض السوق الداخلية السابق في الاتحاد الأوروبي والتنافس أيضا يعتبر ان اليورو يجب ان يعكس النتيجة الناجحة للسوق الموحدة وليس العكس. فالمطلوب في رأيه توحد اقتصادي أقوى وسياسة موازنة موحدة.

مفارقات عديدة تعيشها اوروبا هذه الأيام فالأزمة تحصل في خضم الذكرى الستين لانطلاق عملية البناء الأوروبي مع اعلان وزير خارجية فرنسا حينذاك روبير شومان هذا الانطلاق في التاسع من مايو/ أيار 1950 تأتي هذه الأزمة التي تهدد الانجازات الاقتصادية الأوروبية بعد ان دخلت اتفاقية لشبونة التي تطور التعاون السياسي والاستراتيجي الأوروبي حيز التنفيذ باعتبار ان الشخصية الاقتصادية الأوروبية قائمة على الصعيد الدولي وبقي على اوروبا ملاقاتها ببلورة الشخصية السياسية الأوروبية على الصعيد الدولي ايضا.

لكن الانهيار الاقتصادي الحاصل يضعف البعد السياسي القادم، مع التذكير بأن «انشاء» رئيس لأوروبا ووزير خارجية لها ايضا عملية لا تكفي لبلورة «دور الفاعل الأوروبي» على الصعيد الدولي فالارباكات المؤسسية والارتباكات الشخصية فيما يتعلق بالمسؤوليات والصلاحيات مازال قائما.

ورشة البناء الأوروبي ايضا تتعرض لمزيد من التحديات مع ما يجري حاليا في بلجيكا عاصمة اوروبا ودولة الرئاسة الأوروبية القادمة في اول تموز/يوليو ما يحصل في بلجيكا من مخاطر انفجار البلد وانقسامه بين المكونين الفلامندي والولوني.

ازمة نقد وازمة اقتصاد وازمة هويات من جهة وانجازات كبيرة وطموحة والتطلع لبلورة اوروبا كقطب دولي فاعل من جهة اخرى، هذه هي سمات المشهد الأوروبي الراهن وخلاصة الأمر ان الموضوع يتخطى انقاذ اليورو ليتعلق بإنقاذ اوروبا.

كاتب لبناني

hitti@wanadoo.fr

Email