بريطانيا كقوة استعمارية

بريطانيا كقوة استعمارية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أن ترث الولايات المتحدة، الإمبراطورية البريطانية البائدة، فإن هذا تحول قد يكون مفهوما وفقا لسنن التاريخ وقوانينه، ولكن أن ترث أميركا «بريطانيا العظمى» نفسها بما يجعل المملكة المتحدة مستعمرة أو ولاية أميركية، فإن هذا يدعو إلى عجب لا منتهى له.

«الولايات المتحدة حليفنا لكننا لسنا خادمها»، هذا عنوان مقالة صحفية خطيرة ـ ربما تكون الأولى من نوعها ـ نشرتها «فاينانشيال تايمز» اللندنية، بقلم الكاتب الصحفي الصاعد نوك كليغ. وإذا أخذنا في الاعتبار أن مضمون المقالة ظل متداولا في الآونة الأخيرة في كبرى المقاهي وصالات الفنادق في لندن، فإن نشر المقالة يشي بأن الهمس قد يتحول إلى جهر.

يتساءل الكاتب بوضوح: لماذا شاءت الحكومات البريطانية المتعاقبة، سواء في حزب العمال أو حزب المحافظين، أن تجعل السياسة الخارجية البريطانية خاضعة لمصالح الولايات المتحدة؟

خلال العقود الزمنية الأخيرة، بدا وكأن أي رئيس حكومة لبريطانيا مجرد وزير خارجية للولايات المتحدة أو موظف في البيت الأبيض، أو في أفضل الأحوال حاكم ولاية أميركية.

تلك هي الحقيقة على صعيد الواقع. لكن على الصعيد الرسمي بالطبع، تعتبر بريطانيا من وجهة نظر الطبقة الحاكمة البريطانية حليفا نديا على قدم المساواة مع الولايات المتحدة. هنا يقول الكاتب كليغ إن القاعدة العامة في مثل هذه الحالة، هي أن يكون التحالف خاضعا لتوازن مصالح الطرفين المتحالفين، لا ان يكون طريقا لاتجاه واحد.

وعندما تختلف مصالح بريطانيا عن مصالح الولايات المتحدة، ينبغي أن يكون لدى الطرف البريطاني القدر الكافي من الثقة بالنفس، للاستقلال عن العلاقة التحالفية. لكن الواقع يفيد بأن بريطانيا تصرفت تجاه كثير من القضايا كدولة سلبية عميلة للمصالح الأميركية.

ومن بين الأمثلة في هذا السياق؛ مشاركة بريطانيا في الحرب الأميركية على العراق، علما بأنها حرب لم تحظ بمشروعية دولية. لقد جاءت المشاركة البريطانية نتيجة لتجاوب رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، مع توجيهات من الرئيس الأميركي جورج بوش. ثم إن الحكومة البريطانية التزمت السكوت تجاه عملية الهجوم الوحشي الكاسح الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة، حتى لا تبدو وكأنها تعارض ضمنيا توجهات السياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط.

هذا ما نراه في الحاضر.. فماذا يقول لنا التاريخ؟ الخضوع البريطاني للولايات المتحدة له قصة. وبداية القصة نشأت في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالأحرى تعود جذور القضية إلى الفصل الأخير من الحرب، حين دخلت الولايات المتحدة ساحة الحرب لإنقاذ بريطانيا من هزيمة وشيكة على أيدي قوات ألمانيا النازية.

وبينما أدى التدخل العسكري الأميركي إلى تغيير ميزان الحرب بصورة حاسمة، فإن بريطانيا، بالرغم من خروجها منتصرة، وجدت نفسها متورطة في ديون أسطورية تطالبها الولايات المتحدة بسدادها، في وقت كان الاقتصاد البريطاني على حافة الإفلاس.

هذا الوضع البريطاني المزري، هو الذي شجع الولايات المتحدة على النظر بعين ابتزازية إلى ممتلكات الإمبراطورية البريطانية، لتكون الوارث الأوحد لها. هكذا تحت الضغط الأميركي الابتزازي، خرجت بريطانيا من الهند.

ورغم أن الولايات المتحدة لم تتمكن من فرض نفوذها على دولة الهند المستقلة، إلا أنها استطاعت أن تستثمر انقسام شبه القارة الهندية إلى دولتين، الهند الهندوسية وباكستان الإسلامية، فأسست لنفسها وجودا عسكريا في الدولة الباكستانية. وعلى هذا النحو مارست الولايات المتحدة المزيد من الضغوط لتصفية الوجود الاستعماري البريطاني في مصر والسودان.

في هذا الصدد اكتسب العام 1956 أهمية تاريخية مرجعية. ففي مطلع العام، أعلن استقلال السودان عن بريطانيا، وقرب أواخره وقع «العدوان الثلاثي» على مصر. تواطأت بريطانيا مع كل من فرنسا وإسرائيل لشن هذا العدوان، ردا على قرار عبد الناصر التاريخي بتأميم قناة السويس.

هنا بدا موقف الولايات المتحدة غريبا، فقد اتخذت موقفا معلنا ضد الهجوم، وتحديدا ضد بريطانيا. لكن هذه الغرابة سرعان ما زالت لاحقا، بعد أن اتضح أن الهدف الذي كان يبغي تحقيقه الرئيس دوايت ايزنهاور، هو إحلال الوجود الاستعماري البريطاني في مصر بهيمنة أميركية، من خلال ما أطلق عليه «مشروع آيزنهاور».

الخطوة الأميركية التالية كانت تقضي بمد السيطرة الأميركية على مناطق المشرق العربي. ومع اشتداد حدة الضغط الأميركي على بريطانيا لإخلاء هذه المناطق، مع نهاية عقد الستينات وبداية عقد السبعينات، اضطرت الحكومة البريطانية في عهد رئيس الوزراء العمالي هارولد ويلسون، إلى الاستجابة لهذه الضغوط من خلال تبني ما أطلقت عليه «سياسة شرق السويس».

هكذا تحولت بريطانيا من إمبراطورية إلى دولة من الدرجة الثانية، خاضعة للسيادة الأميركية.

لقد فقدت «بريطانيا العظمى» مستعمراتها.. الواحدة تلو الأخرى، لتتحول هي نفسها إلى مستعمرة. والآن فإن مقالة نوك كليغ، تبدو وكأنها صرخة تدعو إلى استنهاض حركة للتحرر الوطني البريطاني من الاستعمار!

كاتب صحافي سوداني

opinion@albayan.ae

Email