خصخصة السجون حسين العودات

خصخصة السجون حسين العودات

ت + ت - الحجم الطبيعي

كشفت وزارة حقوق الإنسان في العراق وجود سجن خاص في بغداد لم تكن الوزارة ولا المحامي العام ولا القضاء العراقي يعرفون أي شيء عنه، وقد أعلن مصدر رسمي في الوزارة عن اكتشاف السجن الذي يضم أكثر من أربعمائة سجين، وقال ان عدة ضباط يرتبطون بمكتب رئيس الوزراء هم الذين يديرون السجن، وأكد المصدر أن نزلاء السجن لم يخضعوا لتحقيق أو محاكمة ولم توجه إليهم أية تهمة، وبالتالي فإن عدداً من الضباط استغلوا وظائفهم واعتقلوا من يريدون وأودعوا هؤلاء المعتقلين السجن دون ذنب ارتكبوه سوى أن بينهم وبين هؤلاء الضباط عداء عشائريا أو طائفيا أو خلافات على مصالح أو ربما مزاحمة على التقرب من فتاة.

أعتقد أن هذا الخبر (الموثق رسمياً) يجعل الفرائص ترتعد، ويثير الاشمئزاز، ويلقي ضوءاً على حال حقوق الإنسان في بعض البلدان العربية والاستهانة بكرامة المواطن وبالقيم الاجتماعية والدينية والإنسانية، ويعيد المجتمع إلى عصر الهمجية، ويفسح المجال للغرائز والأهواء وصيحات الثأر والعدوان والاستباحة لتفعل فعلها في المجتمع، ويؤكد من جديد ابتعاد بعض دولنا عن مفاهيم الدولة الحديثة ومواصفاتها ومقتضياتها.

ويشير بوضوح إلى أن بعض المجتمعات تعيش في مرحلة ما قبل عصر النهضة وعصر التنوير، بل أبعد من ذلك تعيش في الجاهلية ما قبل مجيء الإسلام، وما دمنا لم نصل لمرحلة بناء الدولة الحديثة بعد، فهذا يعني أننا لم نسمع بمرجعية المواطنة وبمفاهيم المساواة والحرية والديمقراطية وتداول السلطة وحقوق الإنسان.

وإن كل ما يقال عن هذه المفاهيم وكل الشعارات التي تؤيدها، ما هي ـ في هذه المجتمعات ـ سوى شعارات كاذبة تطلقها قوى سياسية لا تؤمن بها، وتستخدمها وسيلة للوصول إلى السلطة والتصرف بها وبمواطني مجتمعاتها كتصرف السيد بالعبد والمالك بالمملوك.

والحالة التي نحن بصددها، أي السجن الخاص العراقي الذي اعترفت به وزارة حقوق الإنسان العراقية وشجبته، هو في الواقع ليس ظاهرة عراقية وحيدة أو نادرة في بعض البلاد العربية، بل يشكل ظاهرة أصبحت عادية في معظم هذه البلدان، وخاصة تلك التي تطبق الأحكام العرفية، وتتيح لأجهزة الأمن (وليس للمدعي العام أو القضاء) اعتقال من تريد دون أية مذكرة قانونية.

وإبقاءه في سجونها الخاصة للمدة التي تريد دون إحالته للقضاء أو تدبيج تهمة بحقه حتى ولو كانت تهمة مزورة، وبلغت الاستهانة بالكرامة الإنسانية أن أمضى بعض المعتقلين في هذه السجون عشرات السنين (دون أية مبالغة لا بالمدة ولا بالنوع) وبطبيعة الحال فليس للمعتقلين فيها أية حقوق، فهم من جهة يعذبون غالباً تعذيباً جسدياً، وتمنع عليهم رؤية أهلهم والسماح لهم بزيارتهم طوال سنوات عديدة.

ويقدم أسوأ الطعام لهم، ويمنعون من الاتصال بالعالم الخارجي لا بطريق الصحف ووسائل الإعلام ولا بطريق غيرها، وقبل هذا وبعده يحرمون من حقوقهم في محاكمات عادلة، لدى قاضيهم الطبيعي، مع وجود محام يدافع عنهم، إلى غير ذلك من الانتهاكات والاستهانة بهم وبحقوقهم وكرامتهم.

تتراوح الإقامة في هذه السجون الخاصة عادة بين عدة أيام وعدة سنوات، وكثيرون من المعتقلين يقضون نحبهم فيها، وكثيرة تلك الأسر التي لا تعرف مصير أبنائها، وحتى أولئك الذين قضوا نحبهم لا تسلّم لأهلهم لا جثامينهم ولا أية وثيقة تشير إلى وفاتهم، على الأقل من أجل حل مسائل الأحوال الشخصية المترتبة على ذلك، كالإرث والطلاق وسداد الديون وغيرها، هذا فضلاً عن الفساد الناشئ عن هذه الآلية، بما يتيح لبعض المسؤولين عن السجون تقاضي الرشوة، لإيصال شيء للسجين من أهله (خبراً أو لباساً أو مالاً أو طعاماً أو غير ذلك) أو السماح لأهله بمقابلته ولو بضع دقائق.

من المآسي التي يواجهها ذوو المعتقلين أنهم لا يعرفون من الذي داهم البيت واعتقل ابنهم أو خطفه من الشارع، وترفض عناصر الأمن الإفصاح عن هويتها غالباً، أو من أي جهاز هي.

وهكذا، وبسبب تعدد الجهات الأمنية التي تملك الحق بالاعتقال، فعلى ذوي المعتقل أن يسألوا هذه الأجهزة جميعها وينتقلون من جهاز إلى جهاز كي يعرفوا الجهة التي تعتقل ابنهم أو قريبهم، وفي الغالب الأعم تنكر هذه الجهات جميعها وجوده عندها، وكأن قوى خارجية هي التي اختطفته.عندما لا يحترم فصل السلطات في بلد من البلدان، فإن القضاء يصبح تابعا للسلطة التنفيذية حسب منطق الأمور ونفوذ مراكز القوى، وعندها لا يحترم القانون ولا الدستور.

ويصبح كل متنفذ يغني على ليلاه، وله قوانينه الخاصة، وأوامره الخاصة، وسجونه الخاصة. بقي تساؤل ساذج هو من أين تأتي موازنة هذه السجون الخاصة، وكيف تسد نفقاتها، وهل توضع هذه النفقات ضمن موازنتها العامة وتكون بالتالي جزءا من موازنة الدولة، أم أنها تتغذى من مصادر أخرى إما خارج مصادر الدولة أو خارج قوانينها؟.

بعد هجوم العولمة وهيمنتها على اقتصاديات بلدان العالم (النامي) وعلى ثقافة الشعوب وتقاليدها وقيمها، ساد مفهوم خصخصة المؤسسات والشركات التي تملكها الدولة، الصناعية منها والزراعية، بل ومؤسسات وشركات الخدمات كالنقل والطيران والماء والكهرباء والتعليم والصحة وكل ما له علاقة بحياة الناس، ثم جرى نهب هذه الشركات والمؤسسات وحرم الفقراء من خدماتها، واستسلم الناس على أمل أن الخصخصة تزيد النمو وتدفع إلى التقدم، ولكن لم يخطر ببال احد أنها ستطاول حقوق الإنسان وتصل إلى السجون أيضاً.

كاتب سوري

odat-h@scs-net.org

Email