العلاقة بين العلم والدين.. أين المشكلة؟

العلاقة بين العلم والدين.. أين المشكلة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل المشكلة هي اليوم أن نختار بين الدين والعلم، أو أن نوفق بينهما؟

هذه المشكلة ليست جديدة، وإنما هي قديمة قِدَم الصراع بين العقل والإيمان، أو المنطق والوحي، أو النص والدليل، أو الفلسفة والشريعة...

واليوم يتجدّد الصراع بين الاتجاهين، في ضوء التطوّر الهائل في العلوم والمعارف، لكي يُصاغ من خلال ثنائية الله والعلم أو الدين والعلم. ومن أبرز محاور هذا الصراع: السجال بين أتباع عقيدة الخَلْق وأصحاب نظرية التطوّر.

والمواقف تختلف وتتعارض. هناك فريق أول يرى أنه لا جدوى من عقد المقارنات أو إجراء التوافقات بين الدين والعلم، لأننا إزاء مجالين ثقافيين مختلفين بالكلية، من حيث المحتوى والمنهج والأداة والاستراتيجية.

أقله أن الدين يتعلق بنصوص منزلة وحقائق مطلقة، فيما العلم لا يُقرّ إلا ما يصل إليه الإنسان باستدلاله العقلي وتحليله المنطقي ومنهجه الاختباري.

هناك فريق ثانٍ يرى أن من الممكن إيجاد تقاطع أو نقاط مشتركة بين المجالين. ومن بين هؤلاء علماء كبار، حائزون على جوائز نوبل في الطب والفيزياء، لا يرون تعارضاً بين عملهم العلمي وإيمانهم الديني، إذ هم يعتبرون أن كلاً من العلم والدين يستجيب لحاجة لدى الإنسان.

واذا كان العلم يهتم بمعرفة طبيعة الأشياء وكشف آليات عملها، فإن الدين يهتم بمعاني الأشياء وغايات الأفعال. ولكن هناك فريقا ثالثا لا يرى هذا الرأي، خاصة أصحاب المواقف القصوى الذين يعسكرون وراء أفكارهم، سواء على جبهة العلم أو على جبهة الدين.

وهذا شأن العلماء الذين يرفضون الموقف الديني جملة وتفصيلاً، وأبرزهم اليوم العالم البريطاني تشارلز داوكنز، المدافع الأكبر عن نظرية التطور وصاحبها دارون، والمعارض الأول لأهل اللاهوت. من هنا عنون أحد كتبه بما معناه: كفانا حديثاً عن الغيبيات التي هي ترهات لا طائل من ورائها.

بالطبع ليس الأمر بهذه البساطة. فإذا كان العلم لا يقطع، ولا يصل إلى اليقين الجازم، في ما يقره من الحقائق بشأن عالم الطبيعة، المحسوس والمشاهد، فمن باب أولى أن لا يقطع في القضايا المتعلقة بعالم الغيب، أو بما ليس في متناول التجربة، لا سلباً ولا إيجاباً.

ففي كلا الحالين، تتصف المعارف العلمية بكونها نسبية، محدودة، تعددية، ولذا تبقى دوماً قيد المراجعة وإعادة النظر.

في المعسكر الديني المقابل، يقف اليوم المحافظون الجدد الذين يدافعون عن عقيدة الخلق ضد نظرية التطور. وهم يخوضون منذ فترة، وكما يجري في الولايات المتحدة الأميركية بنوع خاص، معارك فكرية شرسة من أجل إدراج عقيدة الخلق بنسختها التوراتية في برامج التعليم، ومنهم من يطالب بإلغاء نظرية التطور والإبقاء فقط على عقيدة الخلق.

ومن اللافت أن هؤلاء ليسوا مجرّد لاهوتيين أو رجال دين، كما كان الأمر عند ظهور التطوّر زمن دارون، وإنما يوجد بينهم علماء مختصون في مختلف فروع المعرفة. ولذا نراهم ينقلون المعركة إلى ارض الخصم، فيحاولون مجابهته وتحدّيه، باستخدام نفس سلاحه، أي سلاح العلم والبراهين، لكي يثبتوا صحة عقيدة الخلق وبطلان نظرية التطور.

وحجتهم في ذلك أن الحياة لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة، أو أن تُرَدّ إلى عمل الطبيعة بتفاعلاتها المادية وآلياتها العمياء وطفراتها المفاجئة، وإنما هي من فعل فاعل ذكي قاصد ومخطط. وحده ذلك يفسر، في رأيهم، ما تنطوي عليه الظاهرة الحيّة من الدقة والتعقيد والتنظيم الاستثنائي والخارق.

وهذا الفاعل هو ما أطلقوا عليه اسم «التصميم الذكي» أو الخطة الذكية. ولكن ما يحاول إثباته أهل التصميم الذكي، لا مصداقية له. فأدلّتهم ضعيفة، بل هي مخرومة من غير وجه.

الأول؛ أنهم يستخدمون النتائج العلمية، التي هي نسبية وغير قاطعة، لكي يقطعوا على نحوٍ غير علمي، في مسائل لا تقع تحت متناول التجرية، أو تتجاوز مناهج العلم ومعاييره.

الثاني؛ أن حجتهم ليست جديدة إلا من حيث المحتوى، أي الاستناد إلى المعارف العلمية الحديثة حول تركيب الكائنات الحية.

أما من حيث المنطق فهي قديمة، إذ استخدمها الفلاسفة وعلماء الكلام واللاهوت، للبرهنة على وجود الله، بالقول إن ما ينطوي عليه العالم من نظام دقيق وترتيب محكم وكمال فائق، هو دليل على أنه لا بد أن يكون من فعل فاعل خالق أحكم صنعه وأتقن تدبيره.

غير أن عالم الطبيعة لا يخلو من الطفرات والاختلالات والتشوهات، الأمر الذي يتعارض مع فكرة القصد وحجة الذكاء.

الثالث؛ أنهم يقعون في المنزع التشبيهي من حيث لا يحسبون، بمعنى أنهم، فيما يريدون التأكيد على المصدر الروحاني للخلائق، يخلعون على الله صفات الإنسان، بالتعامل معه كمهندس أو مصمم، بل كسمكري، من حيث علاقته بالمادة واشتغاله الطبيعة.

وهذا ما لفت نظر بعض رجال الدين الذين سخروا من فكرة التصميم الذكي، الذي ينسف مبدأ الخَلق ومقولة التعالي، أي كون الله خلق العالم من عدم، وكونه يتعالى على الوصف ولا يشبهه شيء.

وهكذا فإن أصحاب الخطة الذكية ينفون ما أرادوا إثباته، أو بالعكس، يثبتون ما أرادوا نقضه. وتلك هي حصيلة استخدام البراهين العلمية والمحاججات العقلية في المسائل الإيمانية، التي تتحول إلى مماحكات ذهنية أو إلى ممارسة ضروب من الشعوذة الفكرية والتشبيح العقائدي.

ولا غرابة. فالدين قوامه الإيمان، ولو كان يخضع للبرهنة، لانتفت الحاجة إليه، وهي حاجة لا تتصل بقوانين الطبيعة وطريقة عمل المادة، وإنما تتصل بالمعاني والمقاصد بالنسبة للكائن البشري.

على هذا الصعيد، أعتقد أن المناقشة بين أهل المعسكرين، الديني والعلمي، ليست مفيدة، إلا من حيث كونها تكشف العجز، عند كليهما، عن الحدّ من الأخطار والمساوئ التي تتهدد المصائر والمصالح.

فالبشرية ليست اليوم أفضل حالاً مما كانت عليه من قبل، بعد كل هذا التطور الهائل في العلوم والتقنيات، لأن العِلم لا يهتم بمعنى الأشياء بقدر ما يهتم بمعرفة بنيتها وكيفية عملها.

ولا هي أفضل حالاً بعد صعود الأصوليات الدينية، التي بدلاً من أن تعيد بناء المعنى تعمل على تقويضه، بتطرفها وجنونها ونجومها الذين يزرعون الرعب وينشرون الخراب باسم الدفاع عن المقدسات.

من هنا، ما نحتاج إليه هو أمر يتعدى المفاضلة بين العلم والدين، كما يتعدى المصالحة بينهما.

لأنه يتعلق بمواجهة ثالوث العدمية والوحشية والكارثة، كما تولّدها أعمال البشر ومشاريعهم في هذا الزمن، سواء من حيث علاقة الإنسان مع المعنى، أو من حيث علاقة النظراء بعضهم ببعض، أو من حيث العلاقة مع الطبيعة والأرض.

والرهان هو تجاوز ثنائية الدين والعلم التي باتت قضية مستهلكة، لإنتاج ثقافة مختلفة، بنماذجها وقيمها، بحيث تنفتح معها آفاق جديدة لصناعة الحياة والعالم المشترك.

كاتب ومفكر لبناني

harb@cyberia.net.lb

Email