الأمن القومي.. والعلاقات الأميركية ـ الروسية

الأمن القومي.. والعلاقات الأميركية ـ الروسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في تصريح لمحطة سي إن إن الإخبارية، في الخامس من فبراير الجاري، ذكرت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية، أن أبرز تهديد للأمن القومي الأميركي لا يصدر عن إيران أو عن كوريا الشمالية أو عن أية دولة أخرى، وإنما يصدر عن منظمات لا ترتبط بدول معينة، وهي الحركات الأصولية الإسلامية التي ترتبط بتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وفي باكستان وأفغانستان.

وأضافت أن أساليب عمل هذه المنظمات تتطور بشكل مستمر، وتصبح أكثر تعقيداً وأشد خطورة على المصالح الأميركية، وأن «أشد الكوابيس التي تؤرقنا هو احتمال وقوع بعض أسلحة الدمار الشامل في متناول هذه المنظمات».

والحقيقة أن هذا التصريح يفسر ما أقدمت عليه الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى، من اتخاذ المزيد من الإجراءات الاحترازية في المطارات وفي المعابر الحدودية الأخرى، والتي تلحق الضرر بكبرياء وكرامة القادمين من دول معينة في منطقة الشرق الأوسط.

ويفسر كذلك تهديد الولايات المتحدة بوقف التعاون مع أوروبا في حالة معارضة البرلمان الأوروبي لاتفاق مثير للجدل، يمنح الولايات المتحدة حق الاطلاع على الأسرار المصرفية للمواطنين الأوروبيين، من خلال السماح لها بالاطلاع على المعلومات المتوافرة في شبكة «سويفت» الخاصة بالتحويلات المالية بين المصارف.

ولكن هذا التصريح لا يفسر احتلال الولايات المتحدة للعراق، ولا يفسر اتساع مساحات انتشار قواتها في العالم، ولا يفسر خططها الرامية لنشر الدرع الصاروخية المضادة للصواريخ في أوروبا الشرقية على الحدود الروسية، ولا يفسر كذلك تزويد تايوان بأسلحة متطورة بقيمة تقترب من خمسة مليارات دولار، في صفقة نقلت العلاقات الأميركية الصينية إلى مستوى توتر لم تشهده منذ سنوات طويلة.

تزامن مع تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية، قيام روسيا بالإعلان عن عقيدتها العسكرية الجديدة، التي أقرها الرئيس الروسي ديمتري ميدفيدف في الخامس من فبراير الجاري أيضاً، والتي نشرت على موقع الكرملين على الإنترنت.

وفق هذه العقيدة تعتبر روسيا أن زحف حلف الأطلسي (الناتو) نحو الشرق ليضم دولاً كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق (في إشارة إلى أوكرينيا وجورجيا)، والدرع الصاروخية المضادة للصواريخ التي تزمع الولايات المتحدة نشرها في أوروبا الشرقية، هي أبرز الأخطار التي تهدد أمنها القومي، في حين وضعت العقيدة الجديدة الإرهاب الدولي في المرتبة العاشرة، في قائمة المخاطر التي تتعرض لها روسيا والتي بلغ عددها أحد عشر.

وفي هذا السياق صرح ديمتري روغوزين، السياسي الروسي الذي انتدبته موسكو في حلف الناتو منذ عامين، بأن خطط الولايات المتحدة لنشر الدرع الصاروخية شرق أوروبا على الحدود الروسية، ليس إلا مقدمة لتسهيل انتهاك الحدود والسيادة الروسية، مضيفاً أن هدف الولايات المتحدة قد يكون فعلاً لغرض تحييد الصواريخ التي ربما تطلقها إيران في اتجاه أوروبا كما دأبت على تكرار ذلك، إلا أن هذا الدرع يستطيع استهداف دول أخرى، خاصة روسيا الأكثر قرباً لقواعده.

وأضاف روغوزين أن الولايات المتحدة تستغل قلق الغرب وقلق الدول القريبة جغرافياً من إيران، حول النوايا الحقيقية التي تكمن خلف إصرار طهران على المضي قدماً في برنامجها النووي المثير للجدل، واستمرارها في تعزيز قدراتها العسكرية، خاصة في مجال الصواريخ بعيدة المدى، وهي أسلحة هجومية، لتوسيع المساحات التي تغطيها منظوماتها الصاروخية.

وعودة للحديث عن المخاطر التي يتعرض لها الأمن القومي للولايات المتحدة، والتي أشارت إليها الوزيرة الأميركية وحصرتها في العمليات التي تقوم بها منظمات أصولية معادية للغرب وللولايات المتحدة بشكل خاص، لا بد من الإشارة إلى أن تصريحات الوزيرة الأميركية لا تعكس حقيقة برنامج الأمن القومي للولايات المتحدة.

فمن المعلوم للجميع أن العمليات التي نفذتها المنظمات التي أشارت إليها الوزيرة، قد نالت بالدرجة الرئيسية من المرافق المدنية ومن حياة المدنيين داخل الولايات المتحدة وخارجها، ومن غير شك أن عمليات كهذه ليس لها تأثير على القدرات الهجومية للولايات المتحدة، وليست لها القدرة على إضعاف دفاعاتها الجوية والبرية والبحرية.

وليست لها القدرة على إضعاف دورها السياسي على المستويين الإقليمي والعالمي، وليس لها تأثير على النسيج المجتمعي الأميركي، وليست لها القدرة على منع أو إعاقة الولايات المتحدة عن الحصول على حاجياتها من مصادر الوقود في العالم.

فوفق هذه المعايير التي يصاغ على أساسها مفهوم الأمن القومي، لا ترقى عمليات هذه المنظمات إلى المستوى الذي يهدد الأمن القومي لدولة عظمى مثل الولايات المتحدة، في حين أن نشر أسلحة متطورة قادرة على تعطيل أو إضعاف القدرات الدفاعية لروسيا في حالة تعرضها لهجوم، هو فعلاً تهديد خطير للأمن القومي الروسي.

لقد استبشر العالم خيراً حين أعلنت إدارة الرئيس أوباما في سبتمبر من العام المنصرم، قرارها بتأجيل نشر الدرع الصاروخية المضادة للصواريخ في كل من بولندا وتشيكيا، إلا أن الموقف الذي اتخذته مؤخراً رومانيا، التي كانت عضواً في حلف وارسو، بإعلان رغبتها في الانضمام إلى دول الدرع، قد جدد الحديث عن نشره.

إن أجواء الانفراج في الاحتقانات الدولية، خاصة بين الولايات المتحدة وروسيا، قد لا تستمر مع مجيء إدارة أميركية جديدة أو في ظل تطورات عالمية تخلق بؤر صراعات جديدة، تصبح فيها الدرع الصاروخية مصدر خطر داهم لروسيا، حين تصبح قواعدها الصاروخية هدفاً رئيساً له، ويصبح عند ذاك، كتحصيل حاصل، أمن الدول الأوروبية في خطر.

والحقيقة أن المتابع للشأن الأوروبي، لا يجد أمامه سوى الاستنتاج بأن الدول الأوروبية تلعب دوراً هامشياً في وضع خطط أمنها القومي، وفي إعداد الجدول الزمني لتفعيل هذه الخطط، وذلك لأن هناك تناقضاً بين انتهاج هذه الدول سياسات تهدف لإقامة علاقات قوية مع روسيا، لتحصين أوروبا ضد صراعات قد تمزقها كما مزقتها في حربين كبيرتين في النصف الأول من القرن المنصرم، وبين انتهاج سياسات أخرى تؤدي إلى عكس ذلك.

فالحفاظ على العلاقات الحسنة مع روسيا، أكثر أهمية للأمن الأوروبي من وجود درع صاروخية لحماية أمنها ضد خطر مفترض، ويسيء إلى العلاقات مع روسيا.

كاتب عراقي

majamal@emirates.net.ae

Email