مواجهة بين أوباما والمحكمة العليا الأميركية

مواجهة بين أوباما والمحكمة العليا الأميركية

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين شاهدت أوباما ينتقد المحكمة العليا في خطاب الاتحاد، والقاضي أليتو يبدي امتعاضه لما يقوله الرئيس، تذكرت حملة آل جور الانتخابية في عام 2000، التي حذر فيها الناخبون من أن تولي بوش الرئاسة سيكون معناه وقوع المحكمة العليا في أيدي اليمين، ما يهدد الكثير من مكتسبات الحقوق والحريات المدنية في أميركا.

فما جرى أثناء خطاب الاتحاد كان كاشفا من حيث دلالته، ومنذرا بإمكانية حدوث سلسلة من المواجهات المستقبلية في عهد أوباما، بين المؤسسة القضائية من ناحية والمؤسستين التنفيذية والتشريعية من ناحية أخرى.

وكان الرئيس الأميركي أوباما قد وجه في خطاب الاتحاد انتقادا صريحا للمحكمة العليا، بخصوص قرار كانت قد أصدرته منذ أسابيع، ستكون له تداعياته الخطيرة على عملية تمويل الحملات الانتخابية للمناصب الفيدرالية المختلفة.

وهو القرار الذي اعتبره أوباما مناقضا لما استقر عليه القانون الأميركي منذ بداية القرن العشرين، بخصوص الدور الذي يمكن أن تلعبه الشركات الكبرى في تمويل تلك الحملات.وبينما كان أوباما يوجه انتقاده للمحكمة، ركزت عدسات المصورين على القاضي صامويل أليتو الذي بدا وجهه ممتقعا، وظل يهز رأسه بالنفي ويتمتم بما بدا للجميع وكأنه يقول «هذا ليس صحيحا».

وقد أحدث انتقاد أوباما العلني وامتعاض أليتو الواضح، ضجة إعلامية كبيرة تركزت في أغلبها على ما إذا كان ما بدر من أحد الطرفين ـ أوباما وأليتو ـ أو من كليهما، قد خرج عن حدود اللياقة والبروتوكول المتبع في التعامل بين رأس المؤسسة التنفيذية وقضاة المحكمة العليا.

فبينما هاجم اليمين أوباما واعتبر أنه أتى بفعل غير مسبوق في هجومه الصريح على المحكمة في خطاب الاتحاد تحديدا، ركز الديمقراطيون على ردود أفعال أليتو التي نقلتها الشاشات على الهواء مباشرة، واعتبرت بمثابة استهانة بمنصب الرئيس وعجز عن إبداء الاحترام المطلوب لشخصه، في مناسبة عامة مثل خطاب الاتحاد.

والحقيقة أن علاقة الرئيس الأميركي باراك أوباما بالقاضي صامويل أليتو، لم تكن على ما يرام، حتى قبل تولي أوباما الرئاسة.

فأوباما كان أحد أعضاء مجلس الشيوخ الذين عارضوا بشدة ترشيح بوش لأليتو. وفي أثناء جلسات الاستماع الخاصة بالتصديق على تعيينه، كان أوباما من أشرس منتقدي أليتو، حيث قال وقتها إن سجله القضائي يشير إلى أنه «ينحاز للأقوياء على حساب الضعفاء، وللحكومة والشركات العملاقة على حساب حقوق الأفراد وحمايتها».

وحين تولى أوباما الرئاسة وذهب في زيارة للمحكمة العليا بدعوة من رئيسها، لم يحضر أليتو اللقاء دون إبداء الأسباب.ولعل الانفعال الذي أبداه أليتو كان نابعا من أن الانتقاد الذي وجهه الرئيس للمحكمة، كان شبيها بذلك الذي وجهه شخصيا لأليتو عشية تعيينه.

لكن الواقعة تذهب في دلالاتها إلى ما هو أبعد من ذلك البعد الشخصي.

فقد صارت المحكمة فعلا بسبب رئاسة بوش، أكثر يمينية بكثير من ذي قبل، بما ينذر بما حذر منه آل جور.فالمحكمة العليا التي تتكون من تسعة قضاة، هي أعلى سلطة قضائية في البلاد، وهي تلعب دورا بالغ الأهمية في رسم السياسة العامة في الولايات المتحدة.

فالكثير من السياسات الأميركية الجوهرية، مصدرها في الواقع أحكام للمحكمة العليا، لا قوانين صدرت عن المؤسسة التشريعية.فعلى سبيل المثال، فإن نهاية الفصل العنصري في أميركا كانت بقرار شهير للمحكمة العليا في 1954، أي قبل عشر سنوات كاملة من تمرير قانون الحقوق المدنية.وتقنين عمليات الإجهاض، جاء أيضا بقرار شهير وجدلي من المحكمة العليا عام 1973.

وفي الحقيقة فإن السياسة ليست حاضرة فقط من خلال دور المحكمة وقراراتها، فاختيار أعضاء المحكمة العليا اختيار سياسي من الدرجة الأولى.فوفق الدستور الأميركي، فإن الرئيس الأميركي هو الذي يختار قضاة المحكمة العليا (وغيرهم من قضاة المحاكم الفيدرالية الأدنى درجة).

إلا أن هذا الاختيار خاضع لموافقة مجلس الشيوخ، الذي يتحتم تصديقه على الاختيار.ومن الطبيعي أن يعمد الرئيس لاختيار من يتفقون معه أيديولوجيا وسياسيا، ومن الطبيعي أن يتسبب ذلك في معارك عند التصديق من جانب من يختلفون مع توجهات الرئيس. ومن هنا فإن تعاقب رؤساء محافظين أو ليبراليين، يترك بصمته بالضرورة على تركيبة المحكمة العليا وتوجهاتها.

غير أنه لا يتاح بالضرورة لكل رئيس أميركي أن يترك بصمة على المحكمة، إذ يتوقف الأمر على ما إذا شغر أحد مقاعد المحكمة في فترة حكمه. فوفق الدستور الأميركي، فحين يتولى القاضي منصبه في المحكمة، فإنه يظل فيه مدى الحياة أو حتى يقرر بنفسه التقاعد.

لذلك كانت فترة حكم بوش الابن محورية في تأثيرها على توجهات المحكمة العليا، فقد أتيح له تعيين قاضيين في المحكمة، أحدهما هو القاضي صامويل أليتو وثانيهما هو رئيس المحكمة الحالي جون روبرتس.

والحقيقة أن اختيارات بوش كانت يمينية بشكل حاسم، بالمقارنة باختيارات رؤساء آخرين، بمن في ذلك ريغان الذي عين القاضية ساندرا أوكونور، التي ظلت حتى تقاعدها في عهد بوش تمثل تيار الاعتدال الجمهوري الذي كان يخلق توازنا رصينا للمحكمة.

والحقيقة أن التحول الذي طرأ على المحكمة في عهد بوش الابن، من شأنه أن يمثل مخاطرة لأوباما، إذا ما عجز حزبه عن الاحتفاظ بالأغلبية في أحد مجلسي الكونغرس في الانتخابات التشريعية التي ستجرى في نوفمبر المقبل.

فالمؤسسة الوحيدة التي بإمكانها الالتفاف حول قرارات المحكمة العليا، هي المؤسسة التشريعية، وذلك عبر إصدار قوانين تفكك ما جاءت به المحكمة العليا.باختصار، إذا فاز الجمهوريون بالأغلبية في مجلس الشيوخ، فإن ذلك من شأنه دخول أوباما في مواجهات مستمرة مع المحكمة، دون أن يكون ظهره محميا.

كاتبة مصرية

manarmes@yahoo.com

Email