جبل الجليد وجبال الطمع

جبل الجليد وجبال الطمع

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل هي قمة «جبل الجليد» كما وصفها الخبراء الماليون أم أنها قمة «جبال الطمع» تلك التي طالعتنا الأسبوع الماضي ونحن نتابع أخبار المحافظ المالية الاستثمارية التي اختلط علينا الوهمي منها بالحقيقي بعد أن «وقعت الفأس بالرأس» كما يقول المثل وأصبح كثير من المودعين مهددين بالنقل إلى غرف الإنعاش؟

ألفان وخمسمئة ضحية حتى الآن هي محصلة الذين أودعوا أموالهم في المحفظة الاستثمارية الوهمية التي انكشفت الأسبوع الماضي وأُودِع صاحبها خلف القضبان، بينما ودّع ضحاياها أحلامهم وغدوا يضربون كفا بكف وينتظرون ما سيسفر عنه جرد الأموال والممتلكات التي أمرت النيابة بالحجز عليها لمعرفة ما إذا كانت ستفي بتسديد رؤوس أموال المودعين الذين تقدموا ببلاغات إلى الشرطة يطالبون فيها بالتحقيق في مصير الأموال التي سلموها صاحب المحفظة الوهمية الذي طار صيته إلى الدول الخليجية المجاورة فتوافد عليه الحالمون بالثراء من هناك لينالوا حظهم من الخيبة والفجيعة.

نحن لا نشك في أن السلطات الأمنية ستقوم بالدور المطلوب منها في تتبع وإلقاء القبض على المسؤولين عن هذه القضية، وهي قد باشرت ذلك فعلاً كما جاء في الأخبار، ولا نشك أيضاً في أن النيابة ستقوم بدورها في التحقيق والحجز على أموال المشتبه فيهم لضمان حقوق المودعين، كما أننا واثقون من أن القضاء سيعيد إلى أصحاب الحقوق أموالهم، هذا إذا لم تكن هذه الأموال قد تبخرت وأصبحت في خبر كان وليت ولعل... وكل الأفعال الناقصة والحروف الناسخة التي دخلت عليها فقلبت أوضاعها وعملت فيها رفعاً ونصباً.

قضية شركات توظيف الأموال والمحافظ الاستثمارية الوهمية ليست جديدة، فهي حكاية تكررت أكثر من مرة منذ ثمانينات القرن الماضي وما زالت تتكرر حتى الآن، يختلف أبطالها لكن السيناريو الذي تتم وفقه لا يختلف، فأين يكمن الخلل الذي يجعل هذا العرض مستمرا ولا يوقف حلقات المسلسل الذي يضر بالناس ويسيء إلى سمعة البلد المالية والأمنية، ويجعل منها مرتعاً للمحتالين من كل صنف ولون، يعزفون على وتر حب البشر للإثراء السهل وطمعهم في العوائد المجزية السريعة، دون الالتفات إلى المخاطر التي تكمن في هذه الطرق والوسائل؟

إذا كان الخبراء الاقتصاديون والقانونيون قد أجمعوا على أن السبب الرئيسي وراء ظاهرة توظيف الأموال وهروب أصحاب هذه الشركات والمحافظ بأموال المودعين إلى الخارج هو ضعف الرقابة التي يمارسها المصرف المركزي على السوق، وعدم وجود قانون اتحادي ينظم نشاط توظيف الأموال والاستثمار فإن طمع المودعين ورغبتهم في الثراء السريع يشكلان عاملاً مهماً في ازدهار سوق هذه الشركات والمحافظ الاستثمارية الوهمية.

ويقفان على درجة واحدة من المسؤولية مع الدور الذي يجب أن يقوم به المصرف المركزي في الرقابة على السوق، وعدم ترك المجال للمحتالين ومستغلي الظروف ومنتهزي الفرص للاستيلاء على أموال الناس ومدخراتهم، والدفع بهم إلى الاقتراض وتحميل أنفسهم فوق ما تطيق سعيا إلى تحسين مستواهم المعيشي ومحاولة الاقتراب من الملايين والمليارات التي يسمعون عنها كل يوم ولا يرونها إلا في الأحلام.

عند هذه النقطة نتوقف، تاركين لخبراء الاقتصاد تحليل ظاهرة انتشار المحافظ الوهمية وشركات توظيف الأموال الرسمية وغير الرسمية، ولرجال القانون طرق معالجة الخلل في القوانين الاتحادية والمحلية لسد الثغرات التي أدت إلى إغراق السوق بهذا الكم من الشركات والمحافظ التي لم تجد حرجا في الإعلان عن نفسها في الصحف والإفصاح عن أسماء الوسطاء والهواتف التي يمكن للراغبين في الاستثمار الاتصال بها، الأمر الذي جعل الناس يطمئنون إليها ولا يساورهم شك في أنها مرخصة من قبل السلطات المختصة بالدولة التي كان كل هذا يتم تحت سمعها وبصرها.

نتوقف تاركين لأصحاب الاختصاص عملهم، ونلتفت إلى المودعين الذين أعماهم الطمع عن رؤية الجانب الآخر من الصورة، حيث اعترف أغلبهم أنهم قد وقعوا ضحية للطمع والجشع بعد أن رأوا الآخرين يندفعون إلى الاستثمار من خلال هذه المحافظ دون ضمانات كافية تحفظ لهم حقهم في استرداد أموالهم سوى الشيكات الشخصية التي يمنحهم إياها أصحاب هذه المحافظ، وهي بالتأكيد غير كافية لضمان حقوق المودعين، حيث إن هروب صاحب المحفظة بالأموال خارج الدولة يجعل هذه الشيكات دون جدوى، ويحيلها إلى أوراق تحتفظ بها الشرطة إلى حين إلقاء القبض على مصدريها.

نتساءل عن الأسباب التي أوصلت الناس إلى هذه الدرجة من الجشع وحب المال والتهافت على جمعه بأي وسيلة مهما كانت نسبة المخاطرة التي يمكن أن يتعرضوا لها، فمنذ متى كان الناس في مجتمعنا يتكالبون على المادة بهذه الطريقة، ومنذ متى كان الناس في مجتمعنا لا يتحرون الحلال والحرام في تعاملاتهم، ومنذ متى كان الناس في مجتمعنا يسلمون أمورهم إلى من لا يعرفون عنهم الاستقامة والأمانة والصلاح؟

نتمنى على خبراء الاجتماع وعلماء النفس أن يتناولوا هذه القضية من هذا الجانب، وهو في رأينا جانب تفوق أهميته الجوانب الاقتصادية والقانونية والأمنية، لأنه جانب يغوص في أعماق نفوس البشر الذين يشرِّعون القوانين ويطبقونها ويتعاملون معها.

فعندما تصل النفوس إلى الدرجة التي تعمى فيها البصائر عن رؤية الحق والتمييز بينه وبين الباطل لا تعود الأبصار تفرق بين الصحيح والخطأ، ولا تعود العقول تفكر فيما هو أبعد من المال وكيفية اكتسابه بأسرع الطرق وأسهلها، ولا تعود النفوس تتقبل النصيحة حتى لو كانت من أقرب الناس إليها.

ثمة أشياء ضيعناها في غمرة جرينا وراء المادة أهم وأغلى بكثير من كل أموال الدنيا، ليتنا نفكر في استعادتها قبل استعادة أموالنا التي ضاعت بأيدينا حين سلمناها لأولئك الذين استولوا عليها مستغلين لهفتنا على الثراء وجشعنا، فجبل الجليد الحقيقي الذي بدت لنا قمته في هذه الأزمة هو جبل أطماعنا التي لا تحدها حدود، وركام نفوسنا التي لا تتعلم كل مرة مهما توالت عليها الأزمات والكوارث التي ليست قضية المحافظ الاستثمارية الوهمية أولها ولن تكون آخرها.

كاتب إماراتي

aliobaid4000@yahoo.com

Email