عندما تأسس حلف شمال الأطلسي عام 1948 في أعقاب الحرب العالمية الثانية لم يكن أحد يتوقع أن يكون أول استخدام لقوة الحلف العسكرية سيكون في قلب أوروبا، فقد كان الجميع يعتقد أن الحرب العالمية الثانية هي آخر الحروب في القارة الأوروبية وأن الحروب القادمة كلها ستكون خارج أوروبا.

ولكن الحلف الذي لم يستخدم قواته طيلة نصف قرن من الحرب الباردة قرر ولأول مرة أن يستخدمها في البلقان، الأمر الذي طرح تساؤلات كثيرة حول مدى أهمية هذه المنطقة بالنسبة للحلف وواشنطن والأسباب وراء السعي الدؤوب لتفتيتها وتقسيمها إلى دويلات صغيرة.

على الرغم من أن يوغوسلافيا الاشتراكية في زمن الحرب الباردة لم تكن تشكل أي تهديد لأوروبا، وكانت ملتزمة تحت قيادة المارشال تيتو بسياسة التعايش السلمي مع الجميع، ولكن تقسيم يوغوسلافيا إلى مجموعة من الجمهوريات الصغيرة خلق صراعا عرقيا لم يكن له وجود من قبل.

وصبت واشنطن الزيت على النار من أجل تأجيج هذا الصراع الذي أشعل حربا أهلية في البلقان راح ضحيتها عشرات بل مئات الآلاف في التسعينات، ومازال الصراع قائما بهدف محاصرة صربيا التي تعتبرها واشنطن جسما غريبا في الكيان الأوروبي يجب إخضاعه والسيطرة عليه بسبب الانتماء الديني والعرقي للصربيين للشرق الروسي وولائهم للكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، مما يجعلهم كيانا شاذا في أوروبا يخشى البعض من استخدام روسيا له في المستقبل.

ومن هنا ربما تأتي أزمة كوسوفو الحالية والسعي لفصلها عن صربيا، والرفض القاطع من جانب صربيا وموسكو أيضا، لدرجة أن المسؤولين الروس حذروا من إعلان استقلال كوسوفو عن صربيا من جانب واحد من الممكن أن يشعل الحرب من جديد في البلقان.

وتسعى الولايات المتحدة وأوروبا بكل ما أوتيتا من القوة إلى قلب صفحة كوسوفو وإثبات أن فصل كوسوفو عن صربيا عمليا بواسطة القصف الجوي كان مبررا. كما لا تُخفى على أحد الرغبة في بسط منطق التسعينات من القرن الماضي على القرن الجديد أيضا حيث كانت الولايات المتحدة والناتو يمليان شروطهما بعد الانتصار- حسب ظنهما - في الحرب الباردة.

رغم أن الواقع يكشف أن ما حدث في التسعينات لم يكن مصدره قوة الولايات المتحدة والناتو بقدر ما كان مصدره ضعف روسيا وتراجع مكانتها، وهذا ما يؤكده الوضع الآن حيث تقف روسيا بشدة مع الصرب رافضة استقلال كوسوفو بينما تضطرب أوروبا كلها وترتعد خشية اندلاع الحرب من جديد..

الاتحاد الأوروبي الذي بدأ توا يخرج من الأزمة السياسية من خلال توقيع اتفاقية لشبونة يجد نفسه عاجزا عن قهر إرادة روسيا، وتأتي معضلة انفصال كوسوفو عن صربيا لتعيد القلق والتوترعلى الساحة الأوروبية خشية تفاقم الأزمة ووصولها إلى حد الصدام المسلح، بينما واشنطن تضغط على الأوروبيين بشدة من أجل الاعتراف باستقلال كوسوفو، وتدرك العواصم الأوروبية أن هذا الاعتراف سيجر وراءه سلسلة من المشاكل، حيث يجب على الدول الأوروبية أن تنهض بتنمية كوسوفو مع عدم السماح قدرالإمكان بقيام «ألبانيا العظمى».

وليس ثمة ما يدعو روسيا للتنازل والتراجع عن مواقفها التي لا تشوبها شائبة تقريبا من الناحية السياسية والأخلاقية على السواء فهي ضد تجزئة الدول وتفتيتها وأيضا ضد تصعيد الأزمات، وترى موسكو أن أية مشكلة مهما كان حجمها يمكن حلها بالطرق الدبلوماسية دون اللجوء للغة التهديد والقوة.

وربما لو كان الحال كما كان عليه في روسيا في التسعينات لاتخذت واشنطن قرارها وفرضته بالقوة على الجميع، ولكن روسيا الآن تختلف تماما عنها في التسعينات، فقد عادت تستعيد قوتها وتستطيع أن تفرض رأيها حتى لو اضطرت لتوجيه التهديدات باستخدام القوة.

هل يوجد مخرج من هذا الوضع الحرج؟ نعم، ولا شك.بل أن هناك أكثر من خيار.أولها: أنه على البلدان الغربية أن تقنع صربيا بقبول استقلال كوسوفو بمنحها جملة من التسهيلات والامتيازات السياسية والاقتصادية ترضي معظم الصربيين وتعني من حيث الجوهر اعتذارا وتعويضا عن الأضرار الناتجة عن الحرب التي شنها الناتو.

والخيار الثاني هو تقديم التسهيلات والامتيازات السالفة الذكر بالإضافة إلى إلحاق مناطق كوسوفو التي يشكل الصربيون أغلبية سكانها وربما بعض الأراضي الأخرى بصربيا.

وإذا قبلت صربيا أحد هذين الخيارين ووافقت عامة على استقلال كوسوفو فسوف يتم بذلك الامتثال إلى الشرعية الدولية وسوف تسحب روسيا والصين تهديدهما باللجوء إلى حق النقض في مجلس الأمن الدولي محققتين انتصارا معنويا هاما.

أضف إلى ذلك أن روسيا حققت انتصارا سياسيا خارجيا صغيرا بإثباتها إرادتها وقدرتها على تعطيل القرارات الأحادية الجانب وعديمة الشرعية.وقد صرح رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الفيدرالية الروسي ميخائيل مارغيلوف بأن موقف الولايات المتحدة التي تصر على منح الاستقلال لإقليم كوسوفو وتعطيل المبادرة الروسية الخاصة بمواصلة المحادثات حول الوضع القانوني للإقليم، لا يستجيب لقواعد القانون الدولي، ويثير توجهات انفصالية في جميع أنحاء العالم.

وقال مارغيلوف «لقد تحدثت واشنطن مرارا عن فرادة نموذج كوسوفو، ولكن السياسيين الأميركيين لم يوضحوا طبيعة هذه الفرادة ولو مرة واحدة. بماذا تتميز مسألة كوسوفو عن شمال قبرص وأوسيتيا الجنوبية وايرلندا الشمالية، وغيرها من الجيوب المنتشرة في العالم؟».

الواقع أن الحل الأميركي لأزمة كوسوفو سوف يخلق اضطرابات على الساحة الدولية في مناطق كثيرة وسيدفع الكثير من الأقاليم الصغيرة إلى المطالبة بالاستقلال عن الدولة الأم حسب سيناريو كوسوفو.

ويرى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن إعلان استقلال إقليم كوسوفو من جانب واحد سيشكل سابقة خطيرة تعطي دفعا للحركات الانفصالية في مناطق العالم الأخرى ويخلق فوضى قد تنتج عنها نزاعات مسلحة في أماكن متفرقة من العالم، خاصة وأن سكان أقاليم كثيرة ومنها إقليما أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية المتطلعين إلى الانفصال عن جمهورية جورجيا يتابعون باهتمام تطورات الوضع حول كوسوفو.

وكان الدبلوماسي الأميركي ميتيو برايزا قد حذر روسيا من مغبة الاعتراف باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، معتبرا أن كوسوفو حالة مختلفة وأن إعلان استقلالها لن يشكل سابقة من شأنها دعم نزعة الانفصال في مناطق أخرى.

الموقف الأميركي من قضية إقليم كوسوفو يشكل عقبة منيعة تحول دون إيجاد حل توافقي، وإصرار بعض العواصم الغربية، خاصة واشنطن، على ضرورة منح الاستقلال لإقليم كوسوفو وكأنه لا يوجد بديل عن هذا الحل يشجع ألبان كوسوفو على التشدد في مطالبهم و يشكل عقبة رئيسية على طريق مواصلة البحث عن حل توافقي لقضية كوسوفو.

الواقع أن إعلان استقلال كوسوفو من جانب واحد والاعتراف غير القانوني بهذا الاستقلال لن يتما بالطبع بدون عواقب لأنهما سيثيران ردود فعل متسلسلة في البلقان وفي المناطق الأخرى وفي مناطق أخرى من العالم، وتندم واشنطن كثيرا لو تصورت أن الساحة مفتوحة لها تفعل فيها ما تشاء مثلما كان الحال في التسعينات.

كاتب ومحلل سياسي أوكراني