لا نريد هنا أن ندخل في جدل أيديولوجي على الرغم من أهمية ذلك لاعتقادنا بأن ليس هنا مكان مثل هذا الجدل أو قد شبعنا جدلاً. ما يهدف إليه هذا المقال هو كيف نفهم طبيعة النزاع القائم اليوم بين القوى المختلفة في عالمنا العربي والذي اتخذ صوراً وأشكالاً مختلفة فإذا كان الصراع الديني والعشائري القبلي سمة العصور الوسطى، والصراع الطبقي والمصالح سمة العصر الحديث والصراع على السلطة والنفوذ في تاريخنا المعاصر سمة ما نعيشه اليوم فإن البعد الأيديولوجي هو الذي كان ولا يزال يحرك كل تلك الصراعات.
إن وقائع الأحداث تتداخل وتتفاعل عبر الأزمنة لأنها غير مقطوعة الجذور، فماذا نسمي الصراع القائم اليوم؟ هناك وضع متخلف يعيشه عالمنا العربي يعبر عن نفسه في الاستبداد وغياب الحريات وصراع الإرادات وينتج عنه حروب أهلية وصراعات عشائرية وطائفية وعنصرية تؤدي إلى عدم الاستقرار واستمرار تأخر العرب، بيد أن الأمر الأهم هو معرفة سر ذلك الصراع، أليس هو صراع أيديولوجي على الساحة العربية؟ صراع فكري في الأساس بين من يريد الإصلاح ضد الفساد وبين تيارات فكرية متقاطعة دينية وليبرالية، وقومية وعنصرية، أليس هو صراع بين التخلف والتقدم.
المسألة ليست سياسية بحتة بل فكرية أيديولوجية. لقد شهد عالمنا العربي صراعاً بين الرأسمالية الإقطاعية والاشتراكية، وبين القومية والاستعمار، ويشهد صراعاً بين التيار الديني والتيار الليبرالي الديمقراطي، وإن لم يكن هو صراع أيديولوجي فماذا يمكن أن نسميه؟
إن ظواهر ومظاهر ذلك الصراع قد تبدو غير ذلك، لأنه يغلب عليها الطابع السياسي، ولنتأمل الصراع في لبنان والعراق، إن المشكلة سياسية وحل أزمة البلدين ستكون سياسية بيد أن الحاسم في الأمر هو الجانب الفكري بين تيارات يبقى خلافها حتى لو تمكنت من حل اختلافاتها ما لم تنتصر إرادة التقدم والعقلانية في تجديد فكر المجتمع على أساس ديمقراطي.
المشكلة تكمن في أن البعض يلجأ إلى التبسيط أو إلى أخذ ظواهر الأحداث من دون سبر غورها لمعرفة دوافعها وأبعادها الفكرية. إنه صراع بين الحداثة وبين التقليدية الماضوية يصوره البعض بأنه صراع بين التيار الديني وأعدائه أو صراع سياسي بين قوى تريد الوصول إلى السلطة لغرض برنامجها، إنه صراع فكري مضطرب وضبابي غير واضح المعالم والرؤى، هو صراع أيديولوجي يقوده أناس ليس لديهم وضوح أيديولوجي.
ومن الطبيعي أن يحدث ذلك في العالم العربي، بعد تركة طويلة من التخلف والاستبداد، لكن المصيبة تكمن في استمرار هذا النهج القائم على الصراع في وقت تنمو وتتطور البشرية من حولنا والعيب أن ما يحدث في بلداننا العربية من صراع عشائري وعنصري وطائفي متخلف كان يمكن فهمه قبل خمسمئة سنة، لكن أن يحدث بعد كل هذا التطور الذي شهده الإنسان حتى عصرنا، فهذا ما لم يفهم.
لقد تأخرنا تاريخياً، ولدينا تراكم من مخلفات الماضي، وتجارب لكل الأيديولوجيات الدينية والقومية والاشتراكية والإقطاعية والرأسمالية الليبرالية، وصراع إرادات وقوى على السلطة، وأحزاب سياسية منشغلة بصراعها مع بعضها وبتخبطها الأيديولوجي.
هناك جملة من المؤثرات في واقعنا لا يمكن تجاهلها ونحن نتأمل دوافع وأسباب الصراع القائم في عالمنا العربي تفضي أو تقود إلى نتيجة مفادها أنه صراع أيديولوجي، إن طرح الإشكالية وتشخيصها نصف الطريق، واستكمالها يتطلب البحث عن مخرج للأزمة الفكرية التي نعاني منها.
نعم هناك تجارب في عدد من الدول قادت إلى بلورة فكر أيديولوجي ناضج تغلبت فيه شعوب تلك الدول على أزماتها وملكت الضمانة لعدم العودة إليها بيد أن الأمر يكون في غاية الصعوبة إذا لم تتمكن تجاربنا من خلق ذلك الفكر فيصبح الأمر واضحاً أن لا بديل عن بلورة فكر نيّر من قبل حركات تنوير ليكون نهجاً تسلكه مجتمعاتنا في حاضرها ومستقبلها، وتشكل منفذاً ومنقذاً لأزمات الأمة التي كثرت واستفحلت وأصبحت عبئاً ثقيلاً على جيلنا وربما على أجيال قادمة في عالمنا العربي.
سوف يقول البعض إن مثل هذا التوجه سيقودنا إلى جدل عقيم وصراع من نوع جديد بين المفكرين والمثقفين، في حين أن الواقع يتطلب علاجات سريعة ولا ينتظر التأخير لبلورة الفكر أو الاتفاق على نهج أيديولوجي. هذه وجهة نظر نحترمها، لكن لابد من مناقشتها.
ألا يتحمل المفكرون والمثقفون العرب وزر ما يحدث، أو على الأقل جزءاً أساسياً مما يحدث سؤالنا لماذا هم مفكرون ومنتظرون إذن؟ أليست مهمتهم التنوير وتجديد وبلورة الفكر عندما يضطرب وتختلط الأوراق وتسوء الحال؟ إن التجارب الإنسانية الناجحة والشعوب التي حققت النهضة والتقدم الحضاري كان للمفكرين والمثقفين فيها دور رئيسي، فهل لدينا مفكرون ومثقفون؟
وهل لديهم رؤية واضحة للحاضر والمستقبل؟ وما هو دورهم أم أن العبء أكبر من طاقتهم في ظل الظروف القائمة فهم يجاهدون بفكرهم لكنهم غير قادرين على وقف التدهور وإنقاذ الأمة مما هي فيه، وما يتهددها في المستقبل! ليس لدينا إجابة حاسمة وقاطعة إننا نثير إشكالية قائمة علّنا نفهم أسباب الخلل والعلة؟ وعندها تكون نقطة البداية للخروج من النفق المظلم الذي نعيشه.
هل ما يجري في عدد من دولنا العربية إرهاصات تدل على الحيوية، وبداية النهوض أم تداعيات لأزمة مستفحلة وقاتلة؟ لا نريد أن نصل يوماً إلى القول (يا أزمة اشتدي تنفرجي) إن اشتدت الأزمة زادت المعاناة، وانفراجها عندها ليس بيدنا، والقدرية نؤمن بها لكنها تحتاج إلى العمل والعقلانية كي نخرج من أزمتنا التي هي في الأساس أزمة فكرية.
من المؤكد لم يبق الحال على ما هو عليه مدى الدهر لكن المشكلة تكمن في أن طول فترة الصراع والتخلف تؤدي إلى خسائر هائلة في الإمكانيات البشرية والاقتصادية، وإلى تعميق الأمراض الاجتماعية. سنخرج من هذه الدوامة للصراع يوماً ما لكن بعد خراب ودمار وهدر وأمراض مستعصية فيا أيها المفكرون والمثقفون العرب لابد أن يبدأ دوركم في تفكيك الصراع الأيديولوجي وتجديد الفكر.
لقد خرج علينا بعض المثقفين والمفكرين بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينات من القرن الماضي ليقولوا لقد سقطت الأيديولوجيات، وآخرون قالوا مثل فوكوياما بنهاية التاريخ وانتصار الرأسمالية، كما خرج هنتنجتون ليقول بحتمية صراع الحضارات بدلاً من حوار الحضارات، إنها صراعات عدم التوازن الفكري في عصر يسير بسرعة فائقة لا تدع مجالاً للإنسان أن يلتقط أنفاسه ويأخذ وقته في التأمل والتفكير الهادئ.
كاتب كويتي