الشعوذة الفضائية ـ د. عبدالمالك خلف ا لتميمي

الشعوذة الفضائية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في عصور الهزائم والانحطاط والتخلف تظهر صراعات الشعوذة والدجل وترتدي ألبسة مختلفة فيها تأثير عاطفي ووجداني على عامة الناس والبسطاء السذج خاصة، وقد شهد تاريخنا العربي الإسلامي مثل هذه الصراعات حتى أصبح ظهور مثل هذه الظواهر دليلاً على درجة التخلف والظلامية لشعوبنا.

ان الذي يجعل هذه الشعوذة تنتشر ويقتنع بها بعض الناس هو اللباس الديني الذي تتذرع به، وقراءة الآيات القرآنية، والدين براء من هذا الدجل. تعالوا نلقي نظرة على برامج الشعوذة الفضائية. هناك برامج للشعوذة تبثها بعض الفضائيات العربية ولساعات طويلة حيث يجلس رجل أو امرأة ويبدأ مقدم أو مقدمة البرنامج بالترحيب بالشيخ المشعوذ الذي أمامه مجموعة أوراق أعد فيها ردوداً ونصوصاً، ويشغل نفسه طوال الوقت بالكتابة تمثيلاً ولزوم التأثير على المشاهد.

ويبدأ بتلقي المكالمات الهاتفية من الجمهور نساءً ورجالاً والأغلب من النساء بطبيعة الحال. وبمجرد أن يطرح الشخص مشكلته الصحية أو الاجتماعية عليه أن يذكر اسمه واسم أمه ويأتيه رد الدجال أو الدجالة على الفور بطبيعة المشكلة والحل، ومعظمها ترجع للسحر، فتذكر للسائل مصطلحات مثل: التابعة والسكون، والسحر وغيرها وبسرعة يشخص الدجال الحالة ويصف العلاج بقراءة آيات أو سوّر من القرآن الكريم مثل: سورة ياسين أو سورة البقرة.

وفي أحد هذه البرامج طلب المشعوذ من السائلة أن تقرأ سورة البقرة على أذنها اليسرى لمدة خمسة عشر يوماً ثم تعاود الاتصال بالبرنامج، ويقسم المشعوذ أو المشعوذة بأنه يشفي مرضاه ويحل مشاكلهم الاجتماعية ويتحدث سريعاً لمقتضيات الابتزاز المالي في المكالمات ليسمح لأكبر عدد من الاتصال، ولا يختلف ذلك عن المسجات التي تنهال على بعض الفضائيات حول الأغاني أو طرح مشكلات أو تعليقات معظمها ساذجة وللتسلية تغري كثيراً من المراهقين وهي في حقيقة الأمر ابتزاز مالي لمصلحة شركة الاتصالات النقالة والمحطة الفضائية.

وفي وصفة قال المشعوذ لإحدى ضحاياه التي تركها زوجها ولا تعرف الأسباب ان أحدا في العائلة عمل سحراً لكما ليحدث الانفصال، والحل هو أن تقرئي سورة الأنفال باستمرار وفي أواخر العام السحر يخمد وأنا أستطيع أن أرجع الزوج لك! ويدعي المشعوذ والمشعوذة في هذه الفضائيات بانهما يقولان الحقيقية لتنطلي على هؤلاء البسطاء من الناس لكن مثل هذه البرامج التي تسعى للتجهيل والشعوذة لن تحقق شيئاً ولن تحل مشكلة حتى لو خرجت شهر زاد من جديد.

إن مثل هذه البرامج قد أنتجتها ظروف الواقع العربي المتدهور وشيوع ثقافة التخلف، ففي عد من الأقطار العربية تتراجع العقلانية وتثار النزاعات الطائفية والعرقية، ويسود العدوان والحقد والتسيب، والانهيار على كل المستويات وهذه بيئة صالحة لظهور المرتزقة والدجالين مستغلين بعض الناس بسبب ظروفهم الاجتماعية الصعبة، وضحالة ثقافتهم.

لقد قرأت مرة بأنه بعد هزيمة 1967م بأيام وحالة اليأس التي أصابت الأمة ظهرت إشاعة ظهور السيدة مريم العذراء في إحدى كنائس مصر فجراً فهرعت أعداد كبيرة من الناس ساهرين في الشارع قرب الكنيسة في انتظار ظهور السيدة العذراء! وبعد الحرب الأهلية اللبنانية 1975 ـ 1987م.

وبعد الدمار والإحباط وحالة الناس بعد تلك الكارثة خرجت بعض الصحف في قصة ظهور إنسان أو حيوان ضخم غريب ويبدو أنه من كوكب آخر في أحد شوارع بيروت! وخاف البعض، وهرع آخرون إلى الشوارع ينتظرون هذا المخلوق العجيب.

وليس غريباً أن تخرج علينا بعض الفضائيات التي انتشرت وتقدم برامج سطحية وساذجة في أحيان كثيرة لكسب المال ولتغطية ساعات البث ببرامج عن الشعوذة والدجل وبخاصة أنها وجدت مشعوذين ومشعوذات يجيدون التمثيل وإدعاء الجدية فيما يقولون، وحل المشكلات فيما يدعون والمحصلة النهائية الابتزاز المالي .

والمستفيد من تلك المكالمات والرسائل التي يدفع ثمنها بسطاء الناس ثلاث جهات المحطة الفضائية، وشركات الاتصالات النقالة والمشعوذ أو المشعوذة. إن هؤلاء الناس ادخروا أموالهم لمساعدتهم في حل مشكلاتهم، وفكروا جيداً بأن ما يدعيه أولئك المشعوذين من أنهم حلوا مشاكل الآلاف، وعالجوا أكثر الأمراض المستعصية مثل السرطان والإيدز وغيرهما هو كذب وإدعاء وضحك على الذقون وابتزاز للأموال.

وعلينا ونحن نطرح هذا الموضوع أن نلاحظ ما يلي:

أولاً: إن المحطات التي تبث برامج الشعوذة تجارية ومسطحة وليس لها جمهور كبير يشاهدها ويهتم بها.

ثانيا: ان المشعوذين والمشعوذات هم من جنسيات عربية معينة تعيش دولهم مشكلات كبيرة وغارقة في صراعات عرقية مدمرة.

ثالثا: إن ما يطرحه هؤلاء من مشكلات وحلول متشابهة ويكاد بعض ما يقال فيها أن يكون نسخة عن بعضها.

رابعا: لاحظوا التركيز على الآيات والسور القرآنية التي يغلفون بها إدعاءاتهم في حل المشكلات والعلاج.

والمطلوب لمواجهة مثل هذه الظواهر هو أن تفضح هذه الشعوذة وأن يخرج المثقفون عن صمتهم لمواجهتها لأنها مدمرة لعقول الناس، فإذا كان المشعوذ أو المشعوذة قادرا على حل المشكلات بلمحة البصر فلماذا لا يحلوا مشكلات بلدانهم التي تعج بالفوضى والصراع الأهلي، إذا كانوا قادرين على شفاء كل الأمراض عبر الفضائيات فلماذا لا نغلق كليات الطب في جامعاتنا العربية، وجميع المستشفيات والمراكز الصحية؟

ولماذا أولئك الدجالون يذهبون إلى طبيب الأسنان عندما يواجهون ألماً في أسنانهم؟ إنها صرعة هذا الزمان العربي، وهي صرعة تنم عن التدهور الذي وصلنا إليه، وهناك مسؤولية كبيرة وخطيرة يتحملها رجال الدين العقلاء لمواجهة استغلال الدين لشيوع هذه الظاهرة.

كاتب كويتي

Email