بعد أن تكشف أن صبر بوش «أصبح ليس بلا حدود»، شهدت بغداد وعواصم عربية أخرى حركة دبلوماسية نشطة لموظفي الإدارة الأميركية بدءاً من وزيرة الدبلوماسية كوندوليزا رايس ومروراً بالسفير زلماي ونائب مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط جيمس جيفري وانتهاءً بمستشار الأمن القومي ستيفن هادلي، والهدف المعلن هو البحث عن وصفة سحرية لإكمال «مسيرة العمل!» التي ابتدعها الاستراتيجي كارل روف، وذلك وفق تكتيكات أميركية جديدة مع مختلف أطياف العراق وبالتعاون مع دول الجوار.

ولم يكن هذا النشاط الزائد عن الحد فجائياً ولا انقلابياً إذ أنه وطوال الشهور الماضية كانت «لجنة بيكر» تعد بالخفاء سيناريوهات محتملة لانتشال الاستراتيجية الأميركية (المتهالكة) من الفشل، وحملت الخطط الجديدة رؤى متعددة سواء تلك التي حملت اسم الخيارات الثمانية والتي أقرت باحتمال قبول التقسيم وانتهاء العراق إلى ثلاث دويلات مستقلة، وأخرى أكثر اعتدالاً والتي عرفت بالنقاط الثلاث أو المحاور السياسية ـ الأمنية ـ الإقليمية

والتي تهدف إلى سحب تدريجي للقوات الأميركية من العراق مع نهاية العام المقبل على أبعد تقدير ورفع تعداد الجيش العراقي اللا طائفي إلى 325 ألف عسكري بحسب توصية رامسفيلد، وإعادة التفاوض مع البعثيين وسحب البساط من تحت تنظيم القاعدة بإدخال الجيش الإسلامي في المعمعة السياسية العراقية واجتثاث فرق الموت وعقد المصالحة بين الروافض والنواصب والإفراج عن المعتقلين وإن كان ذلك مؤلماً على حد شعور بوش.

ولكنه ووفق جميع هذه السيناريوهات كان هناك إجماع داخل الفريق الأميركي على ضرورة عدم المساس بوحدة النفط العراقي وعدم السماح لأي قوة من داخل العراق بالاستئثار بالنفط، ولا ننسى التحذير الصريح لكوندوليزا رايس إلى مسعود البرازاني بعد بدعة العلم الكردي بعدم المساس بنفط كركوك،

بالإضافة إلى إجماع آخر ضمني ومقبول بالنسبة للعقلية الحاكمة في البيت الأبيض، وهو بأنهم ليسوا مسؤولين عن انجراف العراقيين إلى الحرب الأهلية في جميع المناطق المختلطة في بغداد والبصرة وكركوك وسامراء قبل أو بعد تدمير قبة علي الهادي والحسن العسكري.

ولكن لما دعت الحاجة إلى هذه التحركات المكوكية؟، بطبيعة الحال لم تكن الحاجة إلى خطط جديدة في العراق أمراً ملحاً على الإدارة الأميركية فقط بسبب انفراط عقد الجمهوريين حول بوش مع قرب انتخابات التجديد النصفي وانتخاب حكام 36 ولاية في أميركا،

أو بسبب ما بات يعرف ب«لانس جيت» والتي قدرت عدد القتلى في العراق منذ الغزو بأكثر من 655 ألف عراقي، ناهيك عن عدد القتلى في صفوف الجيش الأميركي والذي يتزايد باطراد الأمر الذي دفع بالكاتب الصحافي توماس فريدمان بتوصيف الحالة العراقية بالورطة الفيتنامية، مطالباً بحل على الطريقة الفيتنامية للخروج من هذا المستنقع الدموي.

ولذا فإنه وعلى ما يبدو أن بوش قرر أن ينزل عن الشجرة هذه المرة ورأى أنه من الضروري إنهاء المهزلة العراقية والالتفات إلى مصير الاستراتيجية الأميركية الشاملة في الشرق الأوسط ككل وتحديدا بالنسبة للخطر الداهم المتمثل في إيران. وللتقريب، العراق دولة محورية في المشرق العربي وكان القوة الإقليمية الوحيدة التي تهدد إيران، والجمهوريون أمثال رامسفيلد وديفد ساترفيلد أكثر العارفين بالدور الذي لعبه العراق بالحد من طموحات الجمهورية الإسلامية في إيران في ثمانينات القرن الماضي،

وعلى ما يبدو أن الولايات المتحدة ومن خلال تكتيكاتها السابقة الأنفة الذكر تريد استعادة هذا الدور بصناعة عراق شبه متعاون والذي يملك جيشاً علمانياً لا طائفياً وقوة كردية لها امتداداتها داخل إيران، وتركيز جهد القوات الأميركية العاملة في الخليج للاستعداد من خلال مناورات بحر العرب ومناورات الحافة البارزة لمواجهة جديدة تكون العراق شريكته فيها وليس خنجرا في خاصرته.

وطهران عرفت قواعد اللعبة جيدا بالمناسبة، وهي في معرض مطالبتها بدور إقليمي في ترتيب السياسات الأمنية في المنطقة مقابل كبح نطاق مشروعها النووي وليس إنهاؤه، وهذا ما حمله كبير المفاوضين النوويين لديهم علي لاريجاني في رد إيران على مشروع الحوافز الأوروبية، لتعمل على إغراق أميركا في مستنقع العراق، وأكثر من ذلك فإنها ردت على المناورات الأميركية في الخليج وخطة العمل الجديدة في العراق بتسريع برنامجها النووي وعدم التعويل فقط على ورقة التيار الصدري وجيش بدر التابع للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق.

وفي هذا السباق الجديد مع الزمن بين خروج أميركا من عراق جديد له دوره المستعاد إقليميا وبين امتلاك إيران لناصية الذرة بالكامل، فإن استراتيجية أميركا في العراق تكاد موجهة ضمنا بشكل كامل ضد إيران حالة قد يصبح فيها الصدام العسكري أمرا لا مفر منه طالما أن البيت الأبيض غير قادر على التعايش مع فكرة قوة نووية محتملة بالقرب من منابع النفط الرئيسية في العالم.