أزعم أن تلقين الدروس فن لم تتقنه أي أمة في التاريخ كما أتقنته الأمة العربية، وذلك يستند ببساطة إلى استخلاصات سابقة وشروحات موضحة لماهية العقل العربي ومبناه المعرفي، والتي كشفت عن أن العرب برعوا منذ حقبة التنوير المشوهة مرورا بالانكسار العربي الكبير إلى الانحطاط المقرف باجترار المعرفة الوضعية بلا أدنى فكرة عن محاولة نقدها، فضلا عن البراعة في تشويه الذاكرة والفقد الحميم للخبرة والتراكم،

ولذا نشأت أجيال عربية متعاقبة يربض على هرمها بطبيعة الحال أساطين فكرية وسياسية عمقت ذهنية التلقين والسلوك المستلب والمقَولب والموصوف بالتماثيلية، وعليه كان العرب وبكل فخر أساتذة التلقين. ولو استعرضنا بعجالة أبرز ما يمكن أن نلقنه لغيرنا لوجدنا ومن دون أدنى شك على أننا الأساتذة في علوم السلب وتجريد الذات من واقعها، وخير من نقلب الخديعة إلى وضوح الباطل إلى حق والكذب إلى صدق والجوع إلى ورع والجور إلى صبر والموت إلى ملحمة بطولية.

والملهاة الحقيقية التي فرضت نفسها على الشعوب العربية قدرتها على تناسي الواقع وإنكار المسؤولية وتحميلها على أولي الأمر والزعامات والسماحات والقيادات الذين هم الورثة الطبيعيين للجبابرة العضديين، وأكاد أزعم مجددا أن غالبيتنا غير قادرين على أن نصمت للحظة في جدولنا اليومي الملئ بالفزع والدم والاحتجاج ونفكر بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقنا أو نناقش حقيقة شعورنا كوحدات إنسانية تجاه ذاتنا وأمتنا والعالم.

وعلى النتقيض، نجد عدونا الإسرائيلي، الذي يجاورنا على غير إرادتنا منذ أكثر من ثمانين عاماً، قضيناها ونحن نتفنن في فضح جبروته وطغيانه وصهيونيته المريضة ونازيته الفجة وكفره العقائدي، ووصفه حتى بكل ألوان وصنوف القبح التي برع قبلنا فيها كافكا في وصفه لأولاد ابن أوى، نجده برع وبكل اقتدار بتلقيننا دروسا لن ننساها سواء مرّ حزب الله وحماس أو لم يمرا من تحت حراب النظام الغربي.

وأولى هذه الدروس أو العبر في فن صناعة الأمة، وأنها لا تولد إلا بفكر مسلح وأن لا دولة حرة إلا بحرب، ولكننا كوننا أخذنا الدولة كأمر مسلّم فيه، نجدها تجزأت رغم الكم الهائل من العناصر الموضوعية (اللغة والدين والقيم والجغرافيا والتاريخ والذاكرة والعادات)، وبدلا من استخلاص الدروس حملنا السقطة القومية للأمة على إحدى متلازماتنا وهي الخيانة والأجنبي، ولما تجرأ مفكرو القومية الجدد على أدوات صناعة الأمة واكتفوا باستنساخ مصطلح التكامل،

وكفى الله المؤمنين شر القتال، بتجاهل مقصود لحقيقة نسبية مفادها أن الأمة اصطلاح متخيل فوقي، وما لم تتوفر أدوات معززة للتماثل على المستوى السياسي والثقافي العام والاعتماد الاقتصادي لاستحال تكونها، بمعنى أن هوية الامة ـ الدولة لا يمكن أن تتشكل إلا بإعادة صياغة التكوين الثقافي الجمعي للشعوب الرهينة للدولة القطرية على أن تتحمل مسؤولية هذا الأمر قوة سياسية واقتصادية مستقلة عابرة للشعوب العربية وقادرة على فرض القومية وبالتالي إزاحة (المتبعثرات) كأحجار الدومنو لصالح دولة واحدة.

ويصدق القول على أغلبه، بأن إسرائيل ومن خلفها النظام الغربي أفرغوا دول المركز العربي من فعاليتها ويسهمون في تعميق الاختلال في بنيته السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية، لصالح الأطراف التي تكثر فيهم الشعوبية والمذهبية وتتعدى في بعضهم حدود الثروة القدرة الفردية على انتاجها، ما شجع على الالتفاف والتحالف مع ما وراء حدود الأمن القومي للغير كحالة حزب الله وحماس وأنظمة عربية معروفة أخرى كل إلى وجهته شرقا وغربا.

العبرة التالية القادمة من تل أبيب، كانت في قدرتها على تعميق سيكيولوجيا الرهاب (الردع) من إعادة استنهاض الوجود الجمعي وفي أحسن الأحوال الاكتفاء باحتماء تحت مظلة قيم مجردة كالكرامة الوطنية والحق والمقاومة من دون الإسهام بتعزيزها أو المبادرة بالإتيان بها حتى نصر الله اعترف مؤخرا أنه لو توقع رد فعل إسرائيل لما أسر أحدا، وقبل ذلك نجحت إسرائيل بجعل النظام العربي يخوض حرب عبور لا تحرير،

وكان لهذه الأخيرة دور في تعميق ثقافة اللامبالاة وتكريس الظاهرة الصوتية منذ العام 1982 وحتى الآن مرورا بالجعجعة المستمرة في قبالة الاهانات الأميركية المتواصلة للإنسان العربي وثقافته وخصائصه الاجتماعية والدينية بشكل متعمد منذ حرب الخليج الثانية. وكما هو معروف للجميع فان هذه الأسباب وأخرى غيرها متكاملة معها عمقت ظاهة التطرف الضدي او الارتداد إلى مشهد السيف في الاسلام (الجهاد) فقط،

ونشوء العربي الموصوف بالتشدد أو ما يسميه الغرب بالارهابي والذي حوّل بوصلته شرقا وغربا بعيدا عن القضية الفلسطينية وبالتالي بعيدا عن إسرائيل إلا عندما تصبح الضرورة ملحة لحشد المؤيدين والمتعاطفين حولهم. والشخصية العربية تمتاز بالعجز عن التغيير الجمعي، بسبب الهزيمة الجماعية أمام العدو، ولذا فالإنسان العربي ينجح كفرد أناني خاصة عندما يقفز فوق سور الزمن ويرحل بعيدا إلى دولة المؤسسات في الغرب، وحتى هناك إذا تصرف بشكل جمعي تحول مجموعة مهمشة غير مندمجة تتمسك بقيمها رغم أنها مهدورة في بلادها الأصلية.

خلاصة القول، أنني لا أدعي أن ننسخ نموذج العدو أو نمجده، ولكن واقع الحال أن إسرائيل تفتك باللبنانيين والفلسطينيين وأميركا تكفلت بالعراقيين والعالم أجمع صامت، ليس فقط لأنه متواطئ مع إسرائيل وأميركا، بل لأننا أمة لا تزال عاجزة عن دمج الفكرة بالواقع، تقف على رمال متحركة بين 14 مارس ومحمود عباس من جهة وبين خالد مشعل وحسن نصر الله من جهة أخرى، لنكون كشعوب ضحايا صراع الإرادات وهذا جزء من عقابنا العادل.

sla.rami@gmail.com