طلت الفتنة برأسها هذه المرة لتحيل النص الفلسطيني إلى تراجيديا سوداء قاتمة تنذر بانقلاب كبير وانحراف خطير في مسار القضية الفلسطينية ككل، ما يجعلها تكاد بداية لنكبة جديدة، الأمر الذي يستلزم وقفة جادة من جانب كل الوطنيين والثوريين الأحرار في فلسطين والعالم لإنهاء هذه (المهزلة) التي لن يدفع ثمنها سوى هذا الشعب المهجّر من منفى إلى آخر.
وبتداع مبسط للأحداث الراهنة، اختلطت أصوات الرصاص من بنادق العوزي والإم 16 والكلاشينكوف والبريتا من غزة ورام الله بمزيج متناقض، لا يعكس إلا تنافرا حادا بين ما يفترض أن يكون قطبي الساحة النضالية الفلسطينية حركتي «فتح» و«حماس»، وتختفي وراء كل هذه الفوضى تناقضات أشد في معمعة المحاور العربية.
وفي ما وراء الظاهر للعيان نجد أنا ومن يشاركني الرأي أننا أمام انهيار شامل للثورة الفلسطينية التقليدية ما يلزم صعود فكر ثوري جديد أو ثورة على الثورة، وما كان انكفاء المخيلة عن ابداع أدواتها إلا عقب ظهور بدعة البيت الفلسطيني متناسين جميعا أن ديفيد بن غورويون أحرق هذا البيت منذ ثمانية وخمسين عاما، مخلفا خيمة ما فتئت تضرب بها معاول الهدم من كل حدب وصوب.
والحالة السياسية الفلسطينية متشظية بالمناسبة على الدوام ومنذ زمن طويل وليس فقط الآن بين أبو مازن واسماعيل هنية وخالد مشعل، فمنذ ثمانين عاما ولعنة الفتنة الفلسطينية تطل برأسها من حين لآخر. وفي آثام التناقضات الفلسطينية ونزف دم الأخوة شواهد عتيقة،
فكان الفصائليون مهيئين للالتحام السلبي المباشر مع تناقضات النظام الاقليمي وكما تصادمت فيما بينها تصادمت ايضا مع النظام العربي والقوى السياسية العربية على اختلافاتها العقائدية، ولم تكن الصدامات المتكررة بين «فتح» و«حماس» منذ الاعلان عن نشوء الأخيرة في بداية الانتفاضة الأولى وحتى الآن إلا قمة جبل الجليد.
ونجد أن حركة التحرير الوطني «فتح» التي ما هي إلا ولادة طبقية جمعت بين رموز اجتماعية تقليدية تمثلت في ربط عرفات (القدوة) البرجوازي في بلد نفطية بعائلة الحسيني (القوة التقليدية) الأرستقراطية ليحشد مجاميع الفقر والعوز من الأردن ولبنان وما تبقى من فلسطين المحتلة حينها في الكويت وليضرب أول ما يضرب الفلسطينيين من الشيوعيين والإخوان المسلمين،
وأما بخصوص القومين العرب فانحلالهم إلى 10 فصائل ناسخة لنفس الأيديولوجيا منذ الستينات وحتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي ما هم إلا انعكاس لصورة الحرب الباردة بين النظم العربية التقدمية في تلك الفترة من جهة، وتحول طيع في بعض منها إلى ساحة اليمين الفلسطيني بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وحتى التيار الاسلامي الفلسطيني
فما كانت حركة المقاومة الاسلامية «حماس» إلا صيغة اخوانية فلسطينية خالصة في مواجهة التيار الثوري الخميني المتمثل في حركة الجهاد الاسلامي من جهة، والتيار السلفي الجهادي المهاجر في صورة عبد الله عزام. وعلى ضوء هذه المعطيات كانت المنظمات الفلسطينية، ساحة اختبار لأكثر من نظام عربي، وعودة للحفر في الذاكرة،
فالفصائل الفلسطينية تناحرت بنفس صيغة اليوم عقب قبول عبد الناصر لمبادرة روجرز فكان هناك (المع) والآخر (الضد)، واشتعلت العاصمة الأردنية عمان حينها بنفس صوت الرصاص الحالي المدوي في غزة، لتوفر ذريعة إلى جملة الذرائع الأخرى من أجل طرد عناصر المقاومة إلى سوريا ومن ثم لبنان الذي أقحم الفلسطيني نفسه في حربها الأهلية وفي غمرة تجدد الاشتباك الفصائلي بين موالٍ لسوريا ومعارض آخر ضد التهدئة مع اسرائيل ليطرد الفلسطيني من جديد.
واليوم يتصارع الفصيلان الكبيران في أشد المواجهات ضراوة، لينقسما محور المبادرة العربية أو مجموعة (6+2+1)، وبين محور طهران - دمشق - حزب الله المرفوض دوليا، فيما اسرائيل ماضية في تحديد السقف المسموح به لقيام شبه دولة للفلسطينيين.
وعلى أي حال، عجزت «حماس» عمليا الآن في اجتثات الفساد المستشري منذ عودة ياسر عرفات إلى غزة في يوليو 1994، ولم تعد قادرة هي أو غيرها من مكونات المقاومة الفلسطينية القيام بمهامها النضالية ضد الاحتلال، وبدلا من أن يقف الفلسطينيون في الحياد في قبالة لقاءات القيادات الفلسطينية الحالية على أمل أن تفضي عن حل للأزمة الراهنة، أو ينتظرون رحمة وزارة الخارجية الاميركية لتطرح المزيد من حلولها وخوارطها المعدة بالتوافق مع تل أبيب
والتي لن يكتب لها الحياة بسبب انتخابات الكونغرس الاميركية النصفية ومن بعدها انتخابات الرئاسة 2008، والعودة إلى بدء من جديد، فعلى الفلسطينيين أن يبدأوا بالعمل مباشرة على انتفاضة جديدة ضد المركبات السياسية الفلسطينية الحالية، وصياغة كيان مقاوم موحد يملك سلاحا واحدا ويجير السياسي للثوري والفلسطيني للبندقية التي تعرف عدوها، والانتقال إلى الفعل بدلا من انتظار المبادرات من هنا وهناك.
sla.rami@gmail.com