يتساءل الكثيرون عن واقعية وموضوعية مخرجات الوسائل الإعلامية وإلى أي مدى تعكس هذه الوسائل الواقع كما هو وإلى أي مدى تشكله وتبنيه و «تفبركه» وفق أطر ومرجعيات واتفاقيات محددة. ففي بعض الأحيان يُقدم الحدث من زوايا مختلفة ورؤى متناقضة وكأن الأمر يتعلق بحدثين مختلفين تماما.
تعامل وسائل الإعلام مع الكثير من القضايا والأحداث يثير عدة تساؤلات وملاحظات من أهمها أن الإعلام بصفة عامة والصورة بصفة خاصة أصبحا جزءا لا يتجزأ من بعض القضايا والأزمات والحروب. ما قدمته وسائل الإعلام أثناء الاعتداء الصهيوني على لبنان لا يخرج عن هذه القاعدة. فهناك صور كثيرة ووقائع عديدة أُقصيت وأُلغيت نهائيا وتم حذفها وبذلك حجبت نهائيا على إدراك ووعي الجمهور.
وهناك صور أخرى تم التركيز عليها وتم تضخيمها وتركيبها بقيت عالقة في أذهان الجمهور وكأنها هي الكل وهي الحقيقة دون سواها. فالصورة في وسائل الإعلام تثير إشكالية التثبيت والإقصاء، حيث إن الأشياء التي تركز عليها الكاميرا تبقى عالقة في أذهان الجمور وإدراكهم ومخيالهم والأشياء التي تقصيها الصورة وتتخلى عنها فإنها للأبد من إدراك الجمهور.
فالصورة تستخلف الواقع في الكثير من الأحيان بل تصبح هي الواقع نفسه. وهذا يعني أن الصورة تستحضر الغائب وتُغّيب الحاضر. الصورة أصبحت سلعة في الصناعة الإعلامية وبدلا من عكس الواقع وإثراء الحوار الديمقراطي أصبحت وسيلة للتلاعب والفبركة وبناء الواقع حسب ما يريده أصحاب الإمبراطوريات الإعلامية.
ومن هنا نلاحظ أن في العديد من الأحيان يتم التلاعب بالصور وإعادة تركيبها وإخراجها وإضافة أشياء كثيرة عليها حتى تعكس ايماءات وإيحاءات معينة لا تعكس الواقع بالضرورة كما هو وإنما تعكس واقعا مختلفا تماما وفق معايير تحددها الأبعاد الأيديولوجية والسياسية لصاحب المؤسسة الإعلامية.
يحدث هذا في الحروب والأزمات والأعمال الإجرامية والإرهابية للتأثير والتلاعب بمشاعر الناس ولتشكيل وعي ينسجم مع أيديولوجية ومصالح القوى التي تتحكم في الاقتصاد والسياسة والإعلام. شهدت الساحة العربية والعالمية خلال السنوات القليلة الماضية أحداثا مهمة (أحداث 11 سبتمبر، حرب العراق، أفغانستان، الانتفاضة، انهيار الاتحاد السوفييتي، الحرب على الإرهاب)
تفاعلت معها وسائل الإعلام من مختلف أنحاء العالم بطرق مختلفة وفي بعض الأحيان يتبادر للقارئ أو المشاهد أن الأمر يتعلق بأحداث مختلفة وليس بنفس الحدث، لكن عملية النظر إلى الحدث ومعالجته وتحليله وتقديمه للجمهور هي التي اختلفت وبذلك يكاد الحدث نفسه يختلف رغم أنه واحد.
وسائل الإعلام في القرن الحادي والعشرين أصبحت «تفبرك» الواقع أكثر مما تقدمه وتنقله للجمهور كما هو. وفي الصناعة الإعلامية الكلام عن الموضوعية والبراءة وتقديم الأشياء والأحداث والحروب والأزمات كما هي يعتبر ضربا من الخيال.
وسائل الإعلام وبفضل المكانة الاستراتيجية التي تحتلها في المجتمع وبفضل قوتها في تشكيل الرأي العام وفي إعلام وإخبار الجماهير بما يحدث ويجري من حولهم وفي العالم بأسره أصبحت مؤسسات تستقطب اهتمام القوى الفاعلة - السياسية ، الاقتصادية، الدينية،
جماعات الضغط، المجتمع المدني- في المجتمع محليا أو دوليا. هذه القوى تستعمل كل نفوذها ووسائلها لتشكيل الوعي الجماعي والرأي العام وفق معايير ومقاييس تخدم وجهة نظرها ورؤيتها للأحداث وبذلك مصالحها.
فوسائل الإعلام في أي مجتمع لا يحركها المال فحسب، بل هناك قوى أخرى تتنافس فيما بينها للاستحواذ والسيطرة عليها من أجل إعلاء كلمتها ووجهة نظرها وإيصالها للرأي العام. لأن في نهاية المطاف السلطة الحقيقية في أي مجتمع يؤمن بالديمقراطية والشفافية هي سلطة الشعب أي الرأي العام. والقوى الاستراتيجية التي تشكل الرأي العام في أي مجتمع هي وسائل الإعلام.
حسب ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، أصبحت الثقافة في القرن العشرين صناعة مثلها مثل الصناعات الأخرى تخضع لقوانين العرض والطلب وبذلك قوانين السوق. فالمنتجات الثقافية أصبحت منتجات معلبة تُصنع وفق معايير الإنتاج المتسلسل
ووفق أنماط معينة تؤدي في النهاية إلى أحادية الأسلوب والمحتوى. وبذلك اٌختصرت الثقافة في التسلية والاستهلاك العابر- الذي يعمر لفترة زمنية محدودة ثم يزول للأبد. فالصناعات الثقافية أصبحت مرادفة للتلاعب بأذواق الأفراد وحسهم، كما أصبحت نموذجا للتعليب والتنميط والتسطيح وإفراغ الثقافة من محتواها الحقيقي ومن بعدها الجمالي والإنساني.
أفرزت العولمة الليبرالية تداعيات وانعكاسات كبيرة على المؤسسات الإعلامية في جميع أنحاء العالم وأفرغتها من دور الرقابة والسلطة الرابعة والدفاع عن مصالح المحرومين والضعفاء والمساكين في المجتمع من خلال إبراز الحقيقة والبحث عنها بدون كلل أو ملل.
فالسلطة الحقيقة في المجتمع أصبحت في أيدي حفنة من المجموعات الاقتصادية العالمية وهذه الشركات الكونية يزيد حجمها الاقتصادي أحيانا عن ميزانيات بعض الدول.. فالتطور الجيواقتصادي الذي شهده العالم خلال العقود الأخيرة أدى إلى تغيرات وتطورات حاسمة في الصناعات الإعلامية والثقافية على المستوى العالمي.
وبذلك أصبحت وسائل الإعلام الذائعة الانتشار كالصحف والمجلات ومحطات الإذاعة والشبكات التلفزيونية الكبرى والانترنت تتمركز أكثر فأكثر في يد شركات عملاقة مثل «فياكوم» و«نيوزكورب» و«مايكروسوفت»و «برتلسمان» و «يونايتد غلوبال كوم» و«ديزني»و «تلفونيكا»
و«آ أو أل تايم وارنر» وجنيرال إليكتريك» وغيرها. هذه الشركات العملاقة أصبحت تملك، وبفضل التوسع الهائل والسريع في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات والمعرفة، إمكانيات وقدرات هائلة في جمع المعلومة ونقلها وتداولها في جميع أنحاء العالم وبسرعة فائقة.
وبهذا أصبحت الاحتكارات الإعلامية العملاقة أو المجموعات الإعلامية تهتم بمختلف أشكال المكتوب والمرئي والمسموع. كما تتميز هذه المجموعات ببعدها الكوني العالمي حيث أنها تتخطى الحدود والدول والجنسيات والثقافات، فهي كونية وعالمية الطابع.
وبذلك أصبحت هذه الشركات العملاقة ومن خلال آليات الهيمنة والتمركز تسيطر على مختلف القطاعات الإعلامية في العديد من الدول والقارات وأصبحت بذلك الرافد الفكري والأيديولوجي للعولمة الليبرالية.
عولمة بدون عولمة وسائل الإعلام الجماهيرية وعولمة الصناعات الاعلامية والثقافية. ويرى إغناسيو راموني، رئيس تحرير «لو موند ديبلوماتيك» في هذا الشأن أن العولمة هي أيضا وسائل الإعلام الجماهيرية ووسائل الاتصال والأخبار.
وفي سياق اهتمامها بتضخيم حجمها واضطرارها لمغازلة السلطات الأخرى فإن هذه الشركات الكبيرة لا تضع نصب أعينها هدفا مدنيا يجعل منها «السلطة الرابعة» المعنية بتصحيح التجاوزات على القانون واختلال العمل بالنظام الديمقراطي سعيا إلى تحسين النظام السياسي وتلميعه.فلا رغبة لهذه الشركات في التحول إلى «سلطة رابعة» أو التصرف كسلطة مضادة.
وهي لا تخوض فقط في سلطتها الإعلامية بل تمثل الذراع الأيديولوجية للعولمة ووظيفتها احتواء المطالب الشعبية وصولا إلى محاولة الاستيلاء على السلطة السياسية (كما توصل إلى ذلك ديمقراطيا في إيطاليا السيد سيلفيو برلوسكوني،صاحب أكبر مجموعة إعلامية ما وراء جبال الألب)...
هكذا تضاف السلطات الإعلامية إلى السلطات الأوليغارشية التقليدية والرجعية الكلاسيكية. وتقوم معا، وباسم حرية التعبير، بمهاجمة البرامج التي تدافع عن حقوق الأكثرية من السكان. تلك هي الواجهة الإعلامية للعولمة وهي تكشف بأكثر الصور وضوحا وبداهة وكاريكاتورية عن أيديولوجية العولمة الليبرالية.
نلاحظ من جهة أخرى أن الكثيرين تفاءلوا خيرا وظنوا أن ثورة المعلومات وتكنولوجية الاتصال ستردم الهوة بين الشمال والجنوب وبين الأغنياء والفقراء وستؤدي إلى الديمقراطية وانتشار حرية التعبير وحرية الصحافة وبذلك مشاركة الجماهير في السوق الحرة للأفكار وفي الممارسة السياسية وفي صناعة القرار،
لكن الواقع يفند ذلك تماما حيث إن ظاهرة الاغتراب والتهميش وانتشار ثقافة الاستلاب والاستهلاك أصبحت من مميزات الألفية الثالثة سواء في الشمال أو الجنوب.
كلية الاتصال
جامعة الشارقة