الدول الصغيرة في النظام الدولي

الدول الصغيرة في النظام الدولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد أن هدأت المدافع وتوقفت طبول الحرب العالمية الثانية في عام 1945 ظهرت هناك بوادر مجموعة جديدة من الدول الساعية للاستقلال حديثاً، ورغم العقبات وأحجار العثرة التي واجهتها هذه الدول الصغيرة حديثة الظهور إلا أنها آثرت المضي قدماً نحو الاستقلال الرسمي إضافةً إلى محاولتها الجاهدة في إثبات حضورها السياسي على خشبة مسرح النظام الدولي. ويبلغ عدد هذه الدول الصغيرة في العالم حوالي 143 دولة أي ما يقارب 75% من إجمالي دول العالم.

ولا يغيب عن البال أن التحول التاريخي في مجريات السياسة الدولية الذي فرض على النظام الدولي القديم تحولاً من نظام متعدد الأقطاب إلى نظام ثنائي القطبية بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي، قد وضع الدول الصغيرة في حيرة من أمرها.

فهي ترمي بالأساس إلى إثبات ودعم حضورها السياسي على الساحة الدولية ولسوء حظها كانت الساحة الدولية في مرحلة الحرب الباردة هي ساحة صراع وتنافس القوى السياسية العالمية بامتياز بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.

فلذلك تخبطت كثير من الدول الصغيرة الحاصلة على الاستقلال حديثاً في مسألة إلى أي من القطبين تنحاز؟ لضمان دفع وتقوية حضورها السياسي، وأدى هذا بالتالي إلى عدم استقرار هذه الدول على سياسات اقتصادية معينة فهي تتبنى أحياناً نمط الاقتصاد الاشتراكي، وفي أحيانٍ أخرى تختار نمط الاقتصاد الرأسمالي، وفي حالةٍ أخرى تمزج ما بين الاثنين معاً.

الأمر الذي أدى إلى أن تكون نتيجة مثل هذا التخبط هي التضحية باقتصادات الدول الصغيرة فتقع في رمال التبعية الاقتصادية المتحركة نتيجة ما تتعرض له من تهديدات وضغوط موجهة لها من الخارج.

وفي معرض هذا الحديث عن الدول الصغيرة تجدر بنا الإشارة إلى ضرورة الإجابة عن بعض التساؤلات مفادها: ما هي الدول الصغيرة؟ وكيف يمكن التعرف على الأسس التي تؤخذ بعين الاعتبار في وصف هذه الدول بالدول الصغيرة؟

في النظام الدولي ككل هنالك أنواع كثيرة من الدول فهنالك على سبيل المثال وليس الحصر الدول الكبرى وهي الدول التي تلعب دوراً فعالاً في تسيير شؤون العالم من خلال سياساتها الخارجية التي تؤكد أهمية دورها الإقليمي والدولي إضافةً إلى تحقيق مصالحها.

وفي الحقيقة هناك كثير من المعايير المختلفة التي يتم وفقها تصنيف الدول مثل: الناتج القومي، والإدراك السياسي، ... لكن المعيارين الأكثر شيوعاً في عملية التصنيف هما معيار عدد السكان ومعيار المساحة الجغرافية للدولة. وهذه الدول الصغيرة هي التي حددتها الأمم المتحدة وصنفتها على أساس أنها كيانات صغيرة جداً في المساحة وعدد السكان والموارد البشرية والاقتصادية والتي تظهر الآن كدول مستقلة.

وقد رأى البعض أن الدول الصغيرة هي تلك الدول التي يبلغ عدد سكانها أقل من 5 ملايين نسمة، وهذه الدول ليست صغيرة على مستوى المساحة الجغرافية للدولة وعدد سكانها فقط بل هي صغيرة أيضاً في قدراتها البشرية وفي الناتج القومي لها وفي حضورها السياسي.

هذه الدول كما ذكرنا هي دول صغيرة ولكن قد تكون لها مساهمات أو مبادرات أكبر من حجمها أحياناً في النظام الدولي، وتتسم الدول الصغيرة بسلوك خاص في سياستها الخارجية يمكن أن يتضح لنا من خلال النقاط التالية: مشاركتها غالباً ما تكون ضعيفة في مجال الشؤون العالمية، كما أن الدول الصغيرة تقوم بالمساهمة الكبيرة في المنظمات القائمة بين حكومات متعددة.

إضافةً إلى دعمها القواعد القانونية الدولية، ناهيك عن الابتعاد عن السياسات التي تميل إلى عزل الدول الأقوى في النظام الدولي، والامتناع عن استخدام القوة كأسلوب لتحقيق أهداف الدولة المنشودة أو حتى في إدارة شؤونها، كذلك التركيز على المسائل الأخلاقية في القضايا الدولية.

قد يفسر اعتماد الدول الصغيرة على هذه العوامل في تحديد سلوك سياستها الخارجية وذلك محاولةً منها لتفعيل دورها وبروزها كدولة مستقلة، ومن جهة أخرى لمحاولة تفادي الصدام أو العداء تجاه أي دولة أخرى وخاصة الدول الكبرى في النظام الدولي بل تسعى لكسب رضاها.

ومن الآليات التي اتخذتها الدول الصغيرة بُعيد حصولها على الاستقلال لتدعيم حضورها السياسي هو تطلعها للانضمام إلى المنظمات الدولية والإقليمية وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة التي يعتبر قبول مثل هذه الدول فيها هو في حد ذاته بمثابة رمز لشرعيتها الدولية يدعم استقلالها السياسي.

كما أن انضمام الدول الصغيرة إلى هذه المنظومة الأممية التي تضم تحت سقفها معظم دول العالم (192 دولة) يتيح للدول الصغيرة فرصة ذهبية لإقامة علاقات كثيفة ومتنوعة مع دول العالم الأخرى الكبيرة منها والصغيرة مما يعزز مسيرة الدول الصغيرة في سعيها الحثيث لدفع عجلة تفعيل دورها السياسي دولياً.

وبالرغم من القدرات البسيطة التي تحوز عليها الدول الصغيرة عموماً إلا أنها تستطيع القيام ببعض الأدوار التي من شأنها التأثير على الأمور الدولية. فكثير من هذه الدول الصغيرة تتمتع بموقع جغرافي استراتيجي قد لا تتمتع بمثله كثير من القوى السياسية العالمية. فهذا الموقع المهم يكسب الدولة الصغيرة أهمية كبيرة فمن خلاله تستطيع الدول الصغيرة أن تلعب دوراً مؤثراً في الشؤون والتوازنات الإقليمية في منطقةٍ ما الأمر الذي تؤدي تداعياته إلى تأثير قد يصل مداه إلى مستوى أعلى هو المستوى الدولي.

فمن هذا المنطلق يمكننا القول إن الدول الصغيرة حسب ما تملكه من إمكانات بسيطة مقارنةً بالدول الكبرى لا تستطيع أن تؤثر بشكلٍ مباشر وفعال كما تفعل الدول الكبرى في العالم، لكن هذا لا يمنع بالضرورة أنها تستطيع أن تلعب دوراً ثانوياً يحمل في طياته وثناياه تأثيراً غير مباشر في الشؤون السياسية سواء أكان هذا على المستوى الإقليمي أو الدولي.

لكن هذا التأثير غير المباشر والذي تستطيع الدول الصغيرة القيام به من خلال موقعها الاستراتيجي مثلاً يجعلها عرضةً للتدخل الخارجي في شؤونها الداخلية من قبل بعض القوى العظمى في النظام الدولي أو قد تكون من قبل بعض القوى الإقليمية المقاربة لها جغرافياً وبالتالي فإنه يتم السيطرة على سلوك هذه الدولة الصغيرة والتي يتضح لنا هذا جلياً من خلال سياستها الخارجية التي توظفها الدول الأقوى بطريقةٍ أو بأخرى في خدمة مصالحها وتحقيق أهدافها.

لكن الدول الصغيرة كي تحافظ وتدعم وجودها على الساحة الدولية ليس أمامها إلا أن تسعى في سبيل حماية نفسها من خطر التدخل الخارجي في شؤونها الذي قد يفتت سيادتها ومحاولة الاعتماد على قدراتها الأمر الذي سيؤدي إلى تجديد عزم نيتها على زيادة حضورها وتوسيع مجال نفوذها على الساحة العالمية.

جامعة الإمارات ـ قسم العلوم السياسية

ali_alahbabi@hotmail.com

Email