إيران والخليج.. من الديماغوجية إلى العقلانية ـ د. تركي الحمد

إيران والخليج.. من الديماغوجية إلى العقلانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يمكن القول إن انعدام الثقة هو العنوان العام للعلاقات الخليجية الإيرانية في الوقت الحاضر على الأقل. صحيح أن نوعاً من عدم الثقة كان موجوداً طوال الوقت، ولكنه يتخذ أبعاداً اكبر في الوقت الحاضر.

ففي أيام الشاه، كانت هناك أطماع توسعية إيرانية في منطقة الخليج، ولكن نظام الشاه كان منصاعاً نسبياً لما يمكن أن يسمى «أصول اللعبة الدولية»، من ذلك أنه تخلى عن مطالبه في البحرين بعد الاستفتاء الذي أجرته الأمم المتحدة عام 1970.

ولكن المشكلة مع «إيران الثورة» بعد ذلك هو عدم اعترافها بأصول هذه اللعبة، بل هي ثائرة على هذه اللعبة. فإيران الثورة لا ترى أن ما تقوم به عبارة عن محاولة للهيمنة المطلقة، بقدر ما ترى أنه نشر لثورة ودين في كل المنطقة.

وحفاظ على أمن وطني تعتقد أنه لا يتحقق إلا بعملقة منفردة في عالم من الصغار، مع أن النتيجة في النهاية واحدة.

بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، ووفاة الخميني، وهدوء زخم الثورة، حاولت إيران أن تعطي الانطباع بأنها لا تسعى للهيمنة، سواء عن طريق القوة المجردة، أو طريق التهييج الثوري والأيديولوجي والمذهبي، وأنها ملتزمة بقواعد اللعبة الدولية، ولكن المؤشرات لم تكن تدعم مثل هذا التوجه.

فاستمرار احتلال الجزر الإماراتية الثلاث، ومحاولة إيران بناء قوة عسكرية، تقليدية وغير تقليدية تفوق احتياجات الدفاع عن الأمن الوطني الإيراني، والتدخل الدائم في الشؤون الداخلية العراقية.

ورعاية منظمات ثورية تابعة لها تحت مسميات مختلفة، والتهييج الإيديولوجي الشعبوي لجماهيرها وجماهير المنطقة، كانت كلها أمور تدفع للشك أكثر مما تبعث على الاطمئنان.

ولكن المشكلة الأساسية مع إيران تبقى في عدم وجود مركز واحد للسلطة واتخاذ القرار الوطني طوال تلك الفترة، فلم تكن الحكومة الإيرانية إلا مركزاً من مراكز وليست المركز الأوحد للسلطة، مما يدفعنا إلى القول إن هناك أزمة سيادة في النظام السياسي الإيراني. ومن هنا تنبع المشكلة الإيرانية في العلاقة مع دول الجوار وغيرها.

من ذلك أنه قد تصرح الحكومة الإيرانية بشيء، وقد تكون صادقة في تصريحاتها، كما في أيام حكم رافسنجاني وخاتمي، ولكن أجهزة ومؤسسات أخرى داخل النظام تشكل مركزاً مستقلاً تقريباً للسلطة والنفوذ، تمارس خلاف تصريحات الحكومة، مما يجعل الثقة في السياسة الرسمية المعلنة للحكومة الإيرانية مسألة غير موثوق فيها.

ومن هنا تنبع الأزمات مع الجيران وغيرهم. تلك الأجهزة والمؤسسات التي كانت تمارس دورها من وراء الكواليس، هي التي في النهاية استطاعت أن تحقق ثورة مضادة في إيران.

وإجهاض الإصلاحية الخاتمية عن طريق وضع العراقيل في طريقها، وتقفز قوات البسيج (المتطوعون)، والحرس الثوري، والحرس القديم إلى سدة السلطة، ممثلة بالرئيس الحالي أحمدي نجاد.

ولن تتغير الأحوال في هذه الحالة إلا إذا حسم صراع السيادة بين مراكز القوة والسلطة، على ارض الواقع في داخل إيران ذاتها، وأصبح هناك طرف واحد يمكن التعامل معه داخل النظام، قادر فعلاً على فرض إرادته وممارسة السيادة فعلاً لا قولاً.

ورغم أنه يبدو أن موضوع السلطة قد حُسم فعلاً بعد استلام الحرس القديم للسلطة بعد الانتخابات الأخيرة، إلا أن الوضع ليس كما يبدو. فالليبرالية والإصلاحية الخاتمية ما زالت قوية ومنتشرة في مجتمع تتكون أكثريته من شباب ولدوا بعد الثورة.

ولم تعد الشعارات تثيرهم بقدر ما يبحثون عن مضمون الحياة التي يعيشونها. كما أن الإيديولوجيا التي يرفع لواءها القادمون الجدد ـ القدماء للسلطة، لم تعد تعني شيئاً في عالم يقوده الاقتصاد لا السياسة، والتداخل لا التشتت.

من هنا يمكن القول إن المسألة لم تُحسم بعد في الداخل الإيراني، وهذا مما يجعل القلق أكثر من حيث ان القيادة الحالية قد تحاول أن تحل مشكلات الداخل بالتصعيد مع الخارج، وهذا مما يؤجج الصراع في الداخل، وهكذا تكتمل الدائرة التي قد تحرق منطقة بأسرها، ولكن الحديث في هذه المسألة يطول.

وعودة إلى موضوع العلاقات الإيرانية الخليجية، يبرز سؤال مهم: هل يعني ذلك أن طبيعة العلاقة بين إيران وجيرانها تصادمية بطبيعتها؟

حقيقة ليس هناك في عالم الدول، بل في العلاقات الاجتماعية بصفة عامة، علاقات تصادمية بطبيعتها. فعلاقات الخلاف والاتفاق، الصدام والوئام، إنما تتحدد بالمتغيرات السائدة، سواء كانت هذه المتغيرات سياسية استراتيجية، أو اقتصادية أو حتى إيديولوجية أو غير ذلك مما يصعب، بل يستحيل حصره.

وزبدة القول هنا انه ليست هناك أشياء ثابتة بطبيعتها، بقدر ما أن هناك علاقات بين الأشياء تتحدد نتائجها بالمتغيرات والظروف السائدة. والعلاقة مع إيران لا تخرج عن هذا الإطار.

فإيران والإيرانيون ليسوا «خصوماً» بطبيعتهم، كما يحاول البعض أن يصنفهم بهذا الوضع تاريخياً، وليسوا كذلك أصدقاء بطبيعتهم وعلى طول الأمد.

هم جماعة بشرية لها تنظيماتها الخاصة بها، وكذلك طموحاتها وحقوقها ومصالحها التي تعتقدها، ودول مجلس التعاون كذلك. من خلال هذا الاختلاف تتحدد علاقات الصدام والوئام وفقاً للظروف السياسية والتاريخية السائدة.

إنه جدل العلاقات الدولية والبشرية إن صح التعبير. وفي الوقت الحاضر، ووفقاً لما تراه الثورة وإيديولوجيتها في إيران ـ والتي عادت إليها الروح مع مجيء أحمدي نجاد ـ من طموحات وحقوق ومصالح، فإن العلاقات تتجه نحو الصدام أكثر من الوئام.

ولكن ذلك ليس حتماً لا يمكن تفاديه. فإذا كانت نشوة القوة، وثمالة الإيديولوجيا تدفع إيران اليوم إلى التصعيد الذي هو ليس في صالح الجميع، فإن العقلانية في النهاية هي التي سوف تسود، ولكن الخشية أن لا تأتي هذه العقلانية إلا بعد خراب البصرة.

والمقصود بالعقلانية هنا أنه لا يمكن لعلاقة بين دولتين أو شعبين أو جماعتين بشريتين أن تسفر عن منتصر أوحد أو مندحر أوحد طوال الوقت. قد يحدث مثل هذا الأمر لبعض الوقت، نتيجة اختلال موازين القوى في لحظة تاريخية معينة، ولكنه لا يستمر لكل الوقت، طالما أن موازين القوى متغير من المتغيرات .

وليس من الأمور الثابتة. لذلك فإنه يجب على الطرفين، الخليجي والإيراني، وخاصة الطرف الإيراني، أن يدركا أن علاقات الصراع لن تسفر عن شيء في خاتمة المطاف، اللهم إلا الحروب والدماء والخراب، على حساب أمن ورفاه أبناء المنطقة.

ما يحقق الوئام الفعلي هو القدرة على العيش المشترك، بحيث تحقق كافة الأطراف بعض ما تعتقده حقاً لها وفق اتفاق مشترك، والاحترام الفعلي المتبادل للخيارات الداخلية لهذا الطرف أو ذاك. فتحقيق كل ما تعتقده الجماعة أو من يمثلها، لن يسفر إلا عن صدام دائم، وفي الختام لن يكون هناك منتصر دائم. هذه هي العقلانية المتحدث عنها.

وهي آتية لا ريب فيها، ولكن السؤال هو بعد كم من الصراعات والتضحيات والخسائر، هذا هو السؤال. بمعنى أنه هل علينا أن نعاني كما عانت أوروبا مثلاً في تاريخ علاقات دولها حتى نصل إلى تخوم العقلانية، أم أننا يجب أن نستفيد من التجارب الإنسانية الأخرى، بحيث نبدأ من حيث انتهوا لا من حيث ابتدأوا.

كاتب سعودي

Email