شي غيفارا يستولي على السلطة في أميركا اللاتينية ـ د.أحمد القديدي

شي غيفارا يستولي على السلطة في أميركا اللاتينية

ت + ت - الحجم الطبيعي

من كان يراهن في أواخر الستينات على عودة الروح للزعيم الثوري الشهير شي غيفارا ؟ بل واستحواذه على السلطة في أربع دول من أميركا الجنوبية ؟ وبالطرق الديمقراطية لا بحرب العصابات؟

من كان يتوقع حين عشنا نحن جيل الستينات تلك الملحمة، بأن ذلك البطل صاحب اللحية المهملة والسيجار الكوبي والعينين الخضراوين يمكن أن يعود كأنما انبعث حيا ليتسلم السلطة في أربع جمهوريات أميركية جنوبية ؟

لا أحد كان يتكهن بالذي حصل في انتخابات رئاسية نزيهة جرت في كل من البرازيل وفنزويلا وبوليفيا وتشيلي. وهي انتخابات لها أبعاد وتداعيات تتجاوز أوطانها الأصلية وتتعدى في قيمتها القارة الأميركية لتشمل العالم بأسره.

و يعرف كبار السن من بين القراء ما كان يحظى به الثائر الكوبي الأرجنتيني أرنستو شي غيفارا من سمعة عالمية حين انضم ذلك الطبيب المثقف الى فيدال كاسترو في ثورته الكوبية منذ 1954 ثم تحمل مسؤوليات وزارية في هافانا عندما نجحت الثورة ، لكنه فضل مواصلة الثورة المستمرة ضد ما كان يسمى بالامبريالية في الستينات.

وقاد حرب أدغال في بوليفيا إلى أن قتلته الامبريالية عام 1967 وحولته إلى أسطورة رومنطيقية تستهوي الشباب في كل أرجاء المعمورة، ولقبه الطلبة الثوار في انتفاضة مايو 1968 بالسربون بلقب المسيح الأحمر.

وأصبحت الفانيلات الشبابية تحمل صورته في القارات الخمس وفي الولايات المتحدة الأميركية ذاتها ! من كان يتوقع بعث أفكار ذلك الشاعر الحالم المتمرد بعد أربعين عاما لينتصر أنصاره في انتخابات الرئاسة وأن ينجحوا في إقناع جماهيرهم بأن أفكار ذلك القائد الأسطوري لم تزل قابلة للتطبيق في عالم العولمة وطغيان رأس المال وتغول الدول المهيمنة والزيادة من ضعف المستضعفين واستكبار المستكبرين؟

فهذه الأيام يشاهد جمهور الفضائيات الرئيس البوليفي الجديد ايفو موراليس من أصول هندية وهو يطوف بين قصور الرئيس الفرنسي في باريس وقصور الرئيس الصيني في بكين مرتديا جاكتته الجلدية العادية وفانيلة صوف ملونة وبنطلون جينز قديم وهو يتكلم بخجل وتواضع كأنه ممثل لا يتقن دوره فظل يتلعثم ويداري حرجه عن مخاطبيه !

فالرئيس موراليس كان هو الفائز في الانتخابات الرئاسية ليوم 18 ديسمبر 2005 بعد أن قاسى الأمرين في السجون والمنافي والقمع، وهو نقابي لم يفقه السياسة كما يعرفها الوصوليون والسياسيون المحترفون، بل جاء من الأرض الزراعية من مقاطعة قبييلته أيمارا ورفع شعاراته الثلاثة لتعبئة الفلاحين والعمال في بوليفيا وهي: لا تكن جبانا. لا تكن منافقا.

لا تكن عبدا. وبعد خمس عشرة سنة من الكفاح انتصر هذا المزارع المعجب بالقائد الراحل شي غيفارا. ويمكن للقارئ الكريم أن يدخل على شبكة انترنت ليكتشف الكم الهائل من الشتائم القذرة التي كانت تكال لموراليس في وسائل اتصال أميركية ومحلية تتهمه بتجارة المخدرات والإرهاب. أما في البرازيل فقد انتصر التحالف بين الحزب اليساري والحزب العمالي يوم 28 أكتوبر2002.

وتسلم رئاسة الجمهورية العامل الصناعي الخبير في خرط الفولاذ لويس ايناسيو لولا داسيلفا بنسبة 63 بالمائة من الأصوات وهو منذ شبابه الأول أحد أنصار شي غيفارا شارك في مقاومة الدكتاتورية العسكرية ووصل إلى أعلى هرم السلطة في بلاد كانت تعتبر إلى التسعينات ضمن العالم الثالث وأصبحت اليوم تصدر السيارات إلى الولايات المتحدة .

وتزاحم جنرال موتورز، ثم تحول الرئيس لولا داسيلفا الى زعيم للبلدان النامية بفضل مواقفه في المنظمة العالمية للتجارة لصالح المنتجين الفقراء في العالم الثالث والدعوة لشراء المواد الأولية من المزارعين الفقراء بسعرها الحقيقي العادل لا بالمساومات التي يفرضها صندوق النقد الدولي وتحددها مزايدات منظومة بريتن وودس والبورصات الجائرة.

وفي فنزويلا يظل الرئيس هوجو شافيز في رئاسة الجمهورية متحديا لا واشنطن وحدها ولكن أيضا أعظم الشركات العابرة للقارات التي تعلن صراحة دعوتها للإطاحة بهذا الثائر الوقح.

فهو الذي نظم مؤتمر كاراكاس لمن سماهم البؤساء والمحرومين مقابل مؤتمر منظمة التجارة العالمية، وهو الذي يدير تكتلات المنتجين ويعيد النظر في سوق النفط بمقاومة استغلال الشركات الكبرى وكسر احتكاراتها وتوزيع الخيرات على الطبقات العاملة من الشعوب.

وفي شيلي أعلن عن فوز المرأة الحديدية الاشتراكية ميشال باشلي على منافسها الثري والليبرالي سيباستيان بينرا بما يشبه الضربة القاضية في الملاكمة وهي الطبيبة والمتمردة تماما مثل شي غيفارا وهي كذلك الأم بدون زوج في مجتمع تقليدي مسيحي محافظ.

وهي التي مات والدها الجنرال في الطيران تحت التعذيب في مقرات بوليس الدكتاتور أوغستو بينوشي عام 1974 حين غدرت الامبريالية بالرئيس الشرعي المنتخب سالفادور ألندي وقتله غلاة الانقلاب وتحملت ميشال ابنته أمانة الكفاح ضد الدكتاتورية الى أن أطيح بالفساد والعمالة، وها هي المرأة المناضلة تصل بالديمقراطية إلى سدة الرئاسة وتعج اجتماعاتها بصورة الكومندانتي شي غيفارا.

هذه أحداث التاريخ المتقلب العجيب في قارة من القارات التي تستحضر ماضيها لترميم حاضرها، ويعود شي غيفارا بعينيه الخضراوين وسيجاره الكوبي من خلال صناديق الاقتراع لا من خلال قعقعة السلاح ! انه التاريخ بعبره القاسية ودروسه الغنية وتحولاته المدوخة ! لكن حذار من الاعتقاد بأن التاريخ يعيد نفسه وأن المواجهة متوقعة مع الولايات المتحدة !

أبدا، فالعالم تغير وهؤلاء الزعماء الاشتراكيون لا يؤمنون بالشيوعية ولا بقمع الرأي الحر بل أصبحوا يتعاونون مع أميركا تغيرت هي الأخرى وقبلت بهم قسرا لا طوعا لأن إرادتهم من حديد وأوطانهم فوق كل اعتبار وهممهم عالية ورؤوسهم مرفوعة وقبل كل شيء منتخبون من قبل شعوبهم.

alqadidi@hotmail.com

كاتب تونسي

Email