الصحافة النظيفة .. طهارة اليد ونزاهة القلم ـ د. محمد قيراط

الصحافة النظيفة .. طهارة اليد ونزاهة القلم

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعتبر الأخلاق أساس أي عمل يبنى ويؤسس على دعائم واضحة المعالم والأهداف. وإذا غابت الأخلاق، غاب كل شيء وأصبحت الغاية تبرر الوسيلة وأصبحت القيم والمبادئ لا وجود لها.

وهذا يعني أن يختلط الحابل بالنابل ويختلط النزيه والطاهر والشريف بالشخص الذي يكذب وينهب ويسرق ويغش. وإذا كانت النتيجة في النهاية هي المقياس بغض النظر عن الوسيلة فيصبح الشخص الذي يسلك مسالك اللف والنفاق والكذب والغش هو الناجح وهو القدوة.

قضية أخلاقيات ممارسة العمل الصحافي تطرح عدة قضايا وتستوقف كل شخص غيور على القلم النزيه والعمل الصحافي الشريف.

. المتعارف عليه أن كل مهنة بحاجة إلى أخلاق وإلى ميثاق أخلاقيات الممارسة المهنية الذي يحدد الخطوط العريضة والإجراءات التنظيمية والقانونية والتشريعية والأخلاقية لممارسة إعلامية شريفة بعيدة عن الاستغلال.

والابتزاز والشوائب التي تعكر صفو الرسالة النبيلة للإعلام. الأمر بالنسبة للممارسة الإعلامية أكثر أهمية وخطورة نظرا للدور الاستراتيجي الذي تلعبه المؤسسة الإعلامية في المجتمع.

فالقائم بالاتصال أو الصحافي يقوم بتزويد المجتمع بالمعلومات والمعطيات والتحليلات والدراسات والتأويلات لكل ما يجري داخل المجتمع وفي العالم. وإذا قام الصحافي بإخفاء أشياء والتركيز على أشياء أخرى فهذا يعني أنه تلاعب بالرأي العام وبعقول البشر. ومن هنا تأتي أهمية الأخلاق في العمل الإعلامي.

الإشكال المطروح هنا هو أنه عندما يوافق الصحافي على الإكراميات والهدايا فهذا يعني أن من واجبه أن يقدم خدمة مقابل ما أخذه أي أنه يجب عليه مجاملة الجهة التي قدمت له «الظرف» أو الإكرامية.

وهذه الخدمة تعني بكل بساطة إبراز الجوانب الإيجابية والتغاضي أو تناسي السلبيات والنقائص والتجاوزات والأخطاء والهفوات...الخ وهذا يعني إخلالاً بالمسؤولية وعدم احترام القارئ والرأي العام بصفة عامة.

المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة الإعلامية تعني الالتزام بالنزاهة والصدق والمسؤولية والالتزام بطرح مختلف الآراء ووجهات النظر وبإيجابيات وسلبيات المؤسسات التي يقوم الصحافي بتغطيتها وتقديمها للجماهير.

من جهة أخرى نلاحظ أن الصحافي يعمل بمؤسسة إعلامية مقابل راتب محترم ولذا عندما يقوم بعمله فهو يتقاضى أجرا مقابل ذلك العمل وهو بذلك ليس بحاجة إلى إكراميات وما قام به في حقيقة الأمر ما هو إلا واجبه المهني والاجتماعي وهو ليس بحاجة لجزاء ولا لشكر من أي جهة كانت.

والجهة الوحيدة المؤهلة لتشجيعه ومكافأته وتحفيزه هي جهة عمله. قضية الجهات التي تقدم «الاكراميات» للصحافيين تعتبر ممارسة تخرج عن إطار المهنية والحرفية والأخلاق ويجب أن تحاربها كل مؤسسة إعلامية تغير على مهنة الصحافة وعلى المهنية والموضوعية والحياد وعدم الانحياز.

من جهة أخرى يجب على الصحافي الذي يحترم نفسه أن يرفض مثل هذه الممارسات والتي تعتبر بلغة صريحة عبارة عن رشوة وشراء الأقلام من أجل التلميع والتملق وإبراز الإيجابيات وتضخيمها وإخفاء السلبيات. كما تعتبر إهانة للصحافي بحيث أنها عملية شراء لضميره وقلمه ومسؤوليته أمام المجتمع وأمام الرأي العام.

مهنة الصحافة مهنة استراتيجية في المجتمع يجب أن تقوم على أسس سليمة حتى تشكل وتبني ذاكرة اجتماعية سليمة مبنية على الصراحة وعلى الكلمة الصادقة وعلى طهارة اليد ونظافة القلم.

إن فساد المنظومة الإعلامية في المجتمع يعني فساد العقول وفساد الرأي العام وفساد الضمير ومن ثمة فساد المنطق. كل هذا يؤدي إلى اختلاط الحابل بالنابل واختلاط الشريف والنزيه بالراشي والمرتشي وهذا ينعكس سلبا على المجتمع برمته.

وتاريخ الممارسة الإعلامية في العالم يكشف عن أن التجاوزات والمخالفات التي ارتكبتها المؤسسات الإعلامية كشفها الزمن والأيام. والواجب المهني يقول أن كل مؤسسة إعلامية يجب أن يكون لديها ميثاق أخلاقيات المهنة ويجب أن يكون معلق على جدران قاعة التحرير.

أما بالنسبة لجمعيات ونقابات الصحافيين فمن مسؤوليتها أن تصون وتحمي المهنة من الطفيليين والانتهازيين والذين يتاجرون بالمهنة وبشرفها وبمصداقيتها وأخلاقها النبيلة. فالإعلام رسالة وليس تجارة.

صحيح أن المؤسسة الإعلامية هي مؤسسة تجارية وربحية وتبيع منتجا يجب أن يستوفي شروط العرض والطلب وشروط البيع، لكن يجب العلم أن هذا المنتج ليس علبة شامبو أو قطعة شوكولاته وإنما هو منتج فكري، معنوي معرفي يحتوي على معلومات ومعطيات وأخبار...الخ.

فالإعلام مسؤولية ورسالة لأنه يساهم في صناعة وعي الإنسان وفي صناعة الرأي العام والذاكرة الجماعية للمجتمع ويساهم في تشكيل المنظومة الأخلاقية والفكرية والثقافية للمجتمع، ومن هنا فإن التلاعب بهذه المهنة من خلال «الاكراميات» أو الرشاوى وغير ذلك من الممارسات المنافية للقيم والأخلاق يعني بكل بساطة التلاعب بالنظام الأخلاقي والفكري والثقافي للدولة ككل.

ومن هنا فإن الحرص على نزاهة الإعلام والقائمين عليه هو من أولويات الصحافيين والمؤسسات الإعلامية والنقابات الصحافية والسلطة ككل، لأن قوة المجتمع تكمن في قوة نظامه الإعلامي.

ويستوقفنا التاريخ هنا عند تاريخ صحافة الاتحاد السوفييتي سابقا حيث أنها على مر سبعة عقود من الزمن كذبت وزيفت الواقع وأخفت الحقيقة .

وكذبت على السوفييت والعالم بأسره وجاءت الأيام وانكشف حال الشيوعيين وظهرت الحقيقة التي كانت الآلة الإعلامية الروسية تعمل على إخفائها بدون هوادة، وبدلا من مساهمة الإعلام الشيوعي في كشف الحقائق وعرض التجاوزات والأخطاء كان هذا الأخير يمجد ويسبّح ويجعل من الفشل نجاحا ومن الخسارة ربحا.

لقد حان الوقت في الدول العربية لأن نجعل من النظام الإعلامي نظاما ينتقد ويكشف ويعرض الأخطاء والتجاوزات من أجل إقرار الحق وتحقيق الصالح العام.

فالمجتمع بحاجة إلى صحافة نظيفة ويد طاهرة وقلم نزيه، بحاجة إلى إعلام يكشف ويستعرض الأخطاء والتجاوزات والمشاكل من أجل مناقشتها وتصحيحها والتعلم منها، إعلام يساهم في بناء رأي عام مستنير يشارك في صناعة القرار وفي بناء مصيره بنفسه.

أستاذ الإعلام - جامعة الشارقة

Email