«حالة المستقبل» في العام الجديد ـ محمد الخولي

«حالة المستقبل» في العام الجديد

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقول أحمد شوقي في مطلع معارضته سينية البحتري:

اختلاف النهار والليل يُنسي

أذكرا لي الصبا وأيام أنسي

والمعنى بداهة هو أن دوران عجلة الزمن، وتعاقب الليل والنهار يكاد ينسي البشر حقائق واقعهم وتطورات حياتهم ومن ثم فهم بحاجة إلى مواصلة الرصد والتفكير والتذكير، وهذا هو بالضبط ما أنجزه تقرير دولي مهم صدر مؤخرا تحت العنوان التالي: «حالة المستقبل».

وقد تعاون على إنجاز هذا التقرير الذي يستشرف مستقبل الحالة العالمية فوق كوكب الأرض، كل من جامعة الأمم المتحدة (ومقرها في طوكيو) والمجلس الأميركي للأمم المتحدة (في واشنطن).

وبديهي أيضا أن يوجز الباحث أو المحلل السياسي استفساراته عن أحوال عالمنا وكوكبنا في سؤال جامع مانع يقول: هل تواجه البشرية مستقبلا أفضل أو أسوأ مع حلول عام 2006 الجديد؟، وعن هذا السؤال تجيب الدراسة التي نشرتها مجلة «ذي فيوتشرست» الصادرة في واشنطن (عدد يناير/ فبراير 2006) فتقول في إيجاز شديد:

« طبقا لأحدث طبعة صدرت عن «تقرير حالة المستقبل» نستطيع أن نقول ان الآفاق العالمية آخذة في التحسن، ولكن بوتيرة بطيئة بالنسبة لمجمل أوضاع البشرية في مجالات الصحة والثروة والموارد والإمكانات التي تكفل استمرار الحياة فوق كوكب الأرض.

والدلالة الشاملة لهذا كله تومئ - كما تقول مجلة المستقبليات - بأن لدينا سببا يدعونا إلى الأمل، ولكن في مثل هذا السياق يقف الدارس لكي يطالب بأرقام وإحصاءات موثوقة تسند هذا الأمل، ولو كان بصيصا يحوي الحد الأدنى من الوعود.

والأرقام تقول في هذا السياق: رغم أن سكان العالم زادوا عددا فوصلوا إلى 5,6 مليارات نسمة إلا أن هناك نحو مليار إنسان منهم أصبحوا موصولين بشبكة المعلومات الالكترونية الدولية (الانترنت) بمعنى أنه بات بإمكانهم.

أو بإمكان أغلبهم أن يتواصلوا مع فكر العالم ونبضه وآفاق تطوراته. صحيح أن بعضهم لا يرى في وصال الانترنت سوى وسيلة لإزجاء الفراغ واقتحام الخصوصيات والانشغال الأحمق بتوافه الأمور، مثله كمثل الذي شارف على منجم من الذهب أو الماس.

ولكن لم يخرج منه إلا بحفنة من رمل أو قبضة من طين.. لكن الصحيح أيضا أن هناك من سكان العالم عناصر ذكية وأفرادا نابهين شغوفين بالعلم ومشوقين إلى المعرفة وأنهم يتواصلون الكترونيا ولحظيا مع مصادر العلم والتكنولويا..

وهم بذلك يقيمون جسورا تعبر عليها شعوبهم إلى حيث اللحاق بمسيرة التقدم العلمي والتكنولوجي ثم الانضمام إليها بل والمشاركة في منجزاتها.

على أن أشواط التقدم هذه إنما تحققت بفضل ما رصده تقرير المستقبل من إنجازات شهدها ميدان النمو الاقتصادي الذي جاء نموا «متفجرا أو مستشريا» في بعض المجالات على نحو ما يقول التقرير ولدرجة أن شارف حجمه على 60 تريليون دولار على صعيد العالم بأسره.

ومما أفضى بدوره إلى نجاحات لم تعرفها البشرية من قبل وفي مقدمتها زيادة الأجل المتوقع في أعمار البشر وارتفاع معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة وتوسيع فرص حصول شعوب بأسرها على المياه النقية الصالحة للشرب وانخفاض درامي بمعنى مثير وناجز في معدلات وفيات الأطفال الرضع (وخاصة في أقطار العالم الثالث).

نبادر فنعترف مع التقرير الدولي بأن هذه الإنجازات المرموقة والمحمودة إنما تمثل نصف الكوب الملآن كما قد يقال. أما النصف الآخر فيصفه كاتبو التقرير بأنه يجسد «أفدح تناقضات عصرنا» وأشدها مدعاة للقلق والانشغال العميق.. ففيما تنعم أعداد متزايدة من البشر بثمار العلم .

ومنجزات التكنولويا والنمو الاقتصادي - على نحو ما ألمحنا إليه - لا يزال العالم يضم شعوبا تعاني الفقر الاقتصادي والاعتلال الصحي والافتقار إلى الحد الأدنى من فرص التعليم أو التنوير.

والأنكى من ذلك أن زيادة التواصل العالمي أو الكوكبي الذي أشرنا إليه تفضي إلى تعميق أو تجذير ظاهرة العولمة وقدرة الشعوب على أن تطلع على أنماط الحياة عند بعضها البعض.

وتلك ظاهرة تنطوي على تحديات شرسة بقدر ما أنها تتيح فرصا سانحة وامكانات واسعة النطاق لأنها ببساطة تتيح للبشر أن يعرفوا المزيد والمزيد عما حققه بعضهم، وعما ينعم به بعضهم في نفس الوقت الذي يدركون فيه حجم ما يكابدون من معاناة وما يقاسون من شظف أو حرمان.

نحن إذن بإزاء ظاهرة من الانقسام الطبقي الكوكبي وهي ظاهرة مستجدة غير مسبوقة في تاريخ البشر الذين عرفوا الانقسام الطبقي على مستوى هذا البلد أو ذلك المجتمع في هذه المرحلة أو تلك من مراحل التاريخ.

نعم.. يحذر تقرير المستقبل من انقسام المجتمع العالمي - الغلوبالي إلى أغنياء وفقراء ويؤكد أن هذا الانقسام معناه مزيد من الغضب المستعر في نفوس الفقراء ولاسيما بين قطاعات الشباب من أهل الجنوب..

وربما بين نفس القطاعات التي تعيش في كنف مجتمعات الشمال (تأمل مثلا أحداث فرنسا في الخريف الماضي) والأوصاف في هذا السياق عديدة.. فهناك من يطلق على هذا الاحتقان صفات الغضب أو الحقد وهناك من يستخدم مصطلح الإرهاب..

وهناك من يحذر - بنص كلمات التقرير الدولي - من انطلاق شرارة نزوح متزايد يتخذ شكل هجرات متصاعدة من مناطق الفقر في عالمنا إلى مناطق الثراء وتلك «ظاهرة من شأنها أن تفضي إلى تشكيلة واسعة النطاق من الصراعات بل والكوارث الإنسانية».

من ناحية أخرى.. فالمسألة لا تقتصر في تصورنا على صراع الإنسان - الإنسان: إن هناك لونا أو نمطا خطيرا آخر يمكن أن نطلق عليه الوصف التالي: «صراع الإنسان - البيئة»، ذلك ما يحذر منه تقرير عالمي آخر صدر بعنوان «تقييم النظم البيئية في الألفية الثالثة».

ولتبيان أهمية هذه الدراسات ومدى رصانتها العالمية والموضوعية يكفي أن نؤكد أن هذا التقييم للنظم الأيكولوية (البيئية) جاء ثمرة مشاركة 1360 خبيرا ينتمون إلى 95 من أقطار العالم عكفوا على درس.

وتشخيص نظم البيئة فوق كوكب الأرض وخرجوا بتحذيرات موجهة إلى كل من يعنيه أمر هذا الكوكب من مسؤولين ومثقفين ومواطنين عاديين.. ويمكن - بحكم المساحة المتاحة - أن نوجز هذه التحذيرات فيما يلي:

ـ ان 60 في المئة من نظم دعم ومساندة الحياة فوق كوكبنا قد اندثرت أو هي مهددة بالتداعي والاندثار خاصة وأن سكان الأرض في حال مطرد من التزايد (يصل عددهم في عام 2050 وعليك خير إلى 1 ,8 مليارات إنسان) وهذا يهدد بمزيد من التدهور أو التجريف أو التآكل في موارد الأرض.

ـ إن الأمر يستدعي العمل بغير توان على خفض نسبة إنبعاثات الكربون المهلكة والناجمة عن عوادم الصناعة وحركة المرور وما إليها خاصة وأن حجم هذه الغازات الكربونية يبلغ 7 مليارات طن تضاف سنويا إلى غلافنا الجوي فيما لا تستطيع الرئات الطبيعية لكوكبنا وهي الغابات والمحيطات استيعاب أو تنظيف سوى نسبة 5 ,3 مليار طن فقط لا غير.

. ومن ثم فالأمر يزداد تفاقما من حيث ما أصبح يهدد العالم بالفعل من كوارث طبيعية غير مسبوقة (وما ظاهرة التسونامي الآسيوية إلا نموذج ينبغي أن يخضع لمزيد من التأمل وتدبّر العواقب).

ولكي لا تزداد الصورة قتامة.. فإن ثمة منجزات حققها بعض البشر في مقاومة مثل هذه السلبيات بل الأخطار الطبيعية، في هذا المضمار، يوجد مقياس لما يوصف بأنه «الاستدامة البيئية» بمعنى العمل على كفالة صحة البيئة .

ومحاولة صونها عن أخطار التلوث الضار بصحة الكائنات الحية، على قمة البلدان التي حققت نجاحا في مجال هذه الاستدامة البيئية تأتي السويد وفنلندا وسويسرا.. أما الأقطار التي جاءت في ذيل هذا المقياس العالمي..

بمعنى تدهور البيئة على صعيدها وزيادة الأخطار المحدقة بها فقد تصدرتها ثلاثة هي على وجه الترتيب: أفغانستان والصومال وبوروندي.. للأسف الشديد.

كاتب سياسي مصري

Email