فلسطين من دون ديمقراطية ـ د.محمد الرميحي

فلسطين من دون ديمقراطية

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنا نحن جيل الستينات نعتقد بل نؤمن بأن الدولة العربية الأولى، متى ما تحقق لها شيء من الاستقلال ستكون دولة ديمقراطية بالمعنى الحديث هي فلسطين، ودون التقليل من الصعوبات الضخمة التي يواجهها الفلسطينيون مع الاحتلال اليومي التي يفقد البعض صبرهم معه، إلا أن الظاهر من الأمور أن تلك التوقعات لم تكن دقيقة، بل كانت في معظمها أماني في النفس.

الفكرة التي تقول إن الديمقراطية الفلسطينية ستكون الأولى نابعة من معاناة الشعب الفلسطيني، فلم يمر شعب عربي على الأقل ـ رغم أهوال ما يحدث في عراق اليوم، وما حدث في لبنان الأمس ـ كما عاناه الفلسطينيون، فهم عانوا معاناة ضخمة إنسانية ومعيشية بعيدة الغور وظلم فادح، وكان الاعتقاد انه بسبب تلك المعاناة سيحققون مجتمعا ديمقراطيا فاضلا!

فهم في الشتات أفراد ومجموعات مهضومة حقوقهم الإنسانية، إلا فيما ندر، وهم تحت الاحتلال يقاسون سوء العذاب اليومي الإنساني والمعيشي والنفسي. كان ذلك التحليل يقود إلى منطق معقول أنهم، فيما بينهم، سيشكلون أول قاعدة عربية للحريات الحقيقية والديمقراطية الحديثة متى ما تم لهم تحرير ( شبر) من أرضهم.

إلا أن ذلك التوقع كما نشاهده على الأرض لم يكن توقعا معقولا أو قريبا إلى المعقول. لقد ظهر أن (الديمقراطية) الفلسطينية لا تختلف عن أختها العربية، بل وفي بعض الحالات أسوأ من ذلك بكثير.

هذه الفوضى المشاهدة في غزة من اختطاف للأجانب وقتل للمخالفين وسرقات، بل واجتياح للحدود المشتركة التي فتحت بعد شق الأنفس بين غزة والأراضي المصرية تنبئ عن مرض عظيم وكبير في الجسم الفلسطيني، انه الفوضى غير المنظمة التي تتوزع بين عصابات تحمل السلاح ودون مرجعية سياسية مسؤولة.

ثمن هذه الفوضى يدفعها مجمل الشعب الفلسطيني بكامل قواه، وهي أثمان باهظة كونها تتعدى الأثمان المتعارف عليها في الفوضى من فقد للأمن واحتراب بين الإخوة وتخويف لأي استثمار قادم ينشئ فيما ينشئ وظائف تقدم الخبز والأمان والاعتزاز بالنفس للأفراد والجماعات، هي في الحقيقة تعرض النضال الفلسطيني كله لديمومة النزيف.

على الجانب الإسرائيلي تعني هذه الفوضى المسلحة خبرا سارا ومفرحا لقوى التشدد فيها، فهي تستطيع أن تبيع للعالم بسهولة شديدة هذه الأحداث من اغتيالات وخطف وفوضى السلاح على انه عدم قدرة فلسطينية على الانتظام في صيرورة دولة حديثة قادرة على توحيد السلاح وتوحيد المرجعية.

احد مآسي السلطة الفلسطينية وعلاقتها بالتنظيمات المختلفة والمتكاثرة شيء يعرف في ثقافتنا السياسية (بالمزايدة) وهي قيمة تستخدم للحق في الكثير من المناورات السياسية حول العالم، إلا أنها تستخدم في الثقافة العربية وبالأخص في الموضوع الفلسطيني بشكل مبالغ فيه إلى حد الإضرار الضخم بالقضية نفسها.

فنتيجة لهذا الظلم الفادح الذي وقع على الإنسان الفلسطيني، يسير في الغالب أو لديه الاستعداد أن يسير خلف (الحلم) البعيد في استعادة كل الأرض الفلسطينية من النهر إلى البحر، وهناك من هم على (التكايا) مستعدون لبيعه هذا الكلام من بعيد. في الوقت الذي يعرف كل من له بصيرة أن الموضوع هو توازن قوى لا أكثر.

وهي قوى لا طاقة للشعب الفلسطيني في شكلها المادي من السلاح والخبرة والعلم الحديث،أما معنويا فهي أفضل سلاح لدى الفلسطينيين، من حيث إظهار الظلم البشع الواقع عليهم. المزايدة تحرم الشعب الفلسطيني من هذه القوة، فلا هو قادر على موازنة القوة المادية ولا تتيح له هذه المزايدة استخدام القوة المعنوية التي يمتلكها بفعالية على النطاق الدولي.

يشعر الشاب الفلسطيني بحمله للسلاح في شوارع غزة أو مدن الضفة بأنه (تحرر) شخصيا من الضغوط، وهناك علاقة انفكاك بين التحرر الشخصي والتحرر الوطني،ما يلبث هذا الشاب أن يتعرف عليها في أول احتكاك له مع الواقع.

بانتخابات عامة مقبلة في مدن فلسطين وقراها،مرة أخرى رغم مرارة الاحتلال وصلفه، قد تبرز قيادات تضع أمامها خارطة الصراع كما هي، لا كما يجب أن تكون، وتنظر في مناطق القوة ومناطق الضعف في هذا الصراع المرير، وتستخلص دروس حركات التحرير السابقة.

لعل أول ما يلفت إليه أن الاعتماد على الخارج العربي هو اعتماد يمكن أن يكون على الأكثر معنويا وتسانديا في الحقل الدبلوماسي العالمي.

وربما بدعم معنوي ومادي اكبر،أما غير ذلك فهو توقع غير عقلاني أو منطقي، هذا من جانب، أما مصادر القوة من الجانب الآخر،فهو التشجيع ومد اليد السياسية إلى القوى المناهضة للاحتلال في داخل إسرائيل نفسها، فقد كتب التاريخ في كل صفحات التحرر أن افتقاد قاعدة، ولو صغيرة، في ارض الأعداء هو افتقاد لقوة معنوية ضخمة.

لقد كان للثورة الأميركية مناصروها في البرلمان البريطاني، وكان للثورة الجزائرية مناصروها في الطيف السياسي الفرنسي، كما كان لفيتنام مناصروها في الشوارع الأميركية، ولم تخل حركة تحرر من ذلك قطعا.

بجانب البعد الأخر وهو عرب بل فلسطينيو إسرائيل أنفسهم، وهم أخوة وبنو عمومة، قد تقعدهم بعض المحذورات القانونية الآن، ولكن بعضهم قد نشط وبعضهم قدم الدم أيضا في سبيل المناصرة، هذا البعد هو مصدر ضخم للمناصرة، على الصعيد الدولي. كما أن تكثيف الإشارات إلى المقاومين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية يكسب دعما معنويا هائلا للقضية.

أما أوراق الخسارة فهي معروفة للجميع اليوم، وهي هذه الفوضى المتفشية، واستهداف المدنيين في حالة دولية عامة مشمئزة من الإرهاب، وكلما نجح الآخر في إلصاق النضال الفلسطيني بالإرهاب، خسر المواطن الفلسطيني أكثر.

الانتخابات الفلسطينية المقبلة مهمة إلى حد بعيد، فسوف يعقبها انتخابات إسرائيلية عامة، في وسط تشتت بين القوى السياسية الإسرائيلية بعد خروج شارون من المسرح، وقد تعطي نتائج الانتخابات الفلسطينية إشارات إلى الناخب الإسرائيلي إلى أي معسكر ينضم.

المعركة السياسية الفلسطينية المقبلة في الانتخابات سوف تقدم للقضية أما أوراق اعتماد دولي وإقليمي ايجابية أو سلبية. التخوف واضح من جراء إرهاصات ما قبل الانتخابات، ففتح الحركة الأم التقليدية الكبيرة تمزقها الانشقاقات، وتفرقها مراكز القوى، وتتجاذبها غابات السلاح المختلفة، والخلاف القاتل على الكراسي بين الآباء وغياب فاضح للقرار الموحد.

والقوى الأخرى كحماس والجهاد وقوى اصغر، تعلن التشدد ربما من اجل جلب أصوات أكثر من الناخبين الفلسطينيين، وهي تتودد إلى الناخب برفع سقف توقعاته إلى أعلى مستوى اعتمادا على شعار تحرير (من النهر إلى البحر) غامض وغير عملي،تغذيه بعض القيادات في الخارج من أماكنها الآمنة.

فالساحة الفلسطينية وهي تقدم على انتخابات عامة آخر الشهر الحالي تقع في معضلة المواءمة بين التحرير والحرية، فالتحرير بالنسبة للبعض هو المزايدة، والحرية بالنسبة للبعض هي تكميم الأفواه، وهي معادلة تكاد تكون مستحيلة.

جزء كبير مما يعانيه عرب اليوم نابع مباشرة من القضية (الأم) الفلسطينية، وجزء كبير من الحل يكمن في وجود قيادة فلسطينية ديمقراطية حقيقية توازن بين الممكن والمأمول في ظل الظروف الإقليمية الدولية السائدة. إنها مفترق طرق جديد تنتظره المنطقة بكاملها من خلال نتائج صناديق الانتخاب الفلسطينية.

كاتب كويتي

Email