«الحص».. نافذة على المستقبل اللبناني

«الحص».. نافذة على المستقبل اللبناني

ت + ت - الحجم الطبيعي

المشهد السياسي محمل بالعديد من دواعي القلق على الشرق الأوسط كله الصغير والكبير على حد سواء بفعل سيناريوهات دولية لها أهدافها العلنية والخفية وراء شعارات خادعة وبراقة لا تخفي نفسها، كما لا تخفى على أحد من السياسيين الفاعلين في هذه المنطقة أو من الإعلاميين المتابعين لشؤونها وتطوراتها، ومع ما يجري في المشهد كله من تحركات مريبة ومشبوهة ومتصاعدة وملتوية ومتوازية ومتقاطعة، ومتوافقة ومتناقضة، تحركات باعثة على الألم غالباً والأمل أحيانا على مسرح العمليات الكبير الممتد من «تيمور الشرقية» في أقصى الجنوب الشرقي وصولاً إلى «الصحراء الغربية» في أقصى الشمال الغربي من هذا الشرق الأوسط.

في منطقة القلب من هذا الشرق تتكثف المشاهد المأساوية المؤلمة وردود الفعل المقاومة المطمئنة من جانب القوى الشعبية والسياسية العربية الحية سواء في فلسطين أو في العراق أو في الساحتين السورية واللبنانية، والتي باتت تستقطب اهتمام وانشغال العرب الآن ربما أكثر من غيرها. والتي رغم اختلاط الأوراق لم تفقد بوصلة وجهتها، ورغم زيادة الضغوط تبدو عصية على الخضوع، ورغم تراكم الغيوم تبرق منها أكثر من إشارة ضوء.

من لبنان يمكنني الانطلاق إلى بقية الساحات والقضايا. هكذا أرادت القوى الدولية والإقليمية للبنان أن يكون منطلق مخططاتها وساحة مواجهاتها وميدان تصفية حساباتها، وهكذا كان لبنان أحياناً لديه القابلية لأن يكون كما أرادوا بواسطة أمراء الطائفية الانعزالية سواء بالاقتتال الأهلي أو بالتوجه الغربي حينما كانت تضعف وحدته الوطنية، كما كان غالبا لديه الإرادة قادرا بقواه الوطنية العروبية لأن يكون كما يريد له شعبه في اتساق مع التاريخ والجغرافيا، وذلك فقط حين كانت تقوى وحدته الوطنية.

من هنا يجيء الاهتمام بضرورة التصدي لمحاولات إخراج القطار اللبناني عن طريقه الطبيعي وعن خطه المزدوج التاريخي والجغرافي، والذي كان ومازال واجبا أن يبقى خط سيره ووجهته العروبية في طريق ذي اتجاهين من بيروت إلى دمشق ومن دمشق إلى بيروت.

ومن هنا أيضا يجيء الاهتمام بلبنان الآن بالقلق والأمل معا أكثر من غيره، ويتضاعف الإصغاء إلى رجالات لبنان ورموزه الوطنية والدينية والقومية، ومن هنا التركيز اليوم على مشروع الدكتور سليم الحص رائد «القوة الثالثة» ومؤسس منبر الوحدة الوطنية اللبنانية لإصلاح المعادلات المختلة في بعض العقول المحتلة، والتي تكاد تنزلق بلبنان مرة أخرى إلى هوة المواجهة وتهدد سلمه الأهلي بأخطر العواقب.

لقد شاهدت رجل الدولة اللبناني البارز الدكتور سليم الحص خلال الأيام القليلة الماضية مرتين مرة في لقاء خاص على شاشة التلفزيون عقب تأسيسه لمنبر الوحدة الوطنية في مبادرة للخروج بلبنان من نفق الأزمة بعد جريمة اغتيال الشهيد الحريري، والمرة الثانية عقب إعلانه مشروعه الوطني لتغيير المشهد السياسي اللبناني بعد جريمة اغتيال النائب التويني، وفي مواجهة التوترات المتصاعدة للأزمة الحكومية والتصريحات الطائشة والمواقف المتقلبة لبعض أمراء السياسة الذين تتغير مواقفهم السياسية لا تبعاً لتغير الفصول بل تبعا لتغير الأيام والساعات!

وفي اللقاءين التلفزيونيين بقي الدكتور سليم الحص كما كان دائما رئيسا للوزراء في لبنان لخمس مرات وعلى مدى ثلاثة عهود رئاسية كما هو المفكر الأكثر شفافية والوطني المستقل الذي انتقل من الاقتصاد إلى السياسة دون أن يكسب من السياسة أو يربح من الاقتصاد، والذي لم يدر المال رأسه في الاقتصاد أو تغره السلطة في السياسة.

طرح الرجل مشروعه لإنقاذ لبنان وآراءه لإصلاح العلاقات اللبنانية السورية وموقفه من المقاومة ومن محاولات التغريب والتدويل، وفي كل ذلك خرج بطريق واحد للإنقاذ ودرع وحيد للحماية وسلاح وحيد للدفاع يتركز في ثلاثية الحل المتمثل أولاً في ضرورة الوحدة الوطنية التي تتمحور حول اتفاق الطائف الذي يؤكد عروبة لبنان ويلغي الطائفية التي تتخطى الطبقة السياسية التي يراها في تخندقها الفئوي والطائفي الضيق واستقوائها بالقوى الخارجية هي سر أزمة الوطن الآن، والمتمثل ثانيا في ضرورة تغيير المشهد السياسي اللبناني الحالي في ستة أشهر بصورة جذرية وشاملة على الأسس الديمقراطية.

حيث يرى أن المشهد الحالي هو المشكلة والحل يكمن في تغييره كاملاً عن طريق دعوة الرئيس لحود للمبادرة إلى إعلان استعداده للاستقالة بعد صياغة قانون انتخابي جديد خلال شهرين لا يكرس الطائفية، وعلى أساس دوائر المحافظات، وبالتالي مجلس نيابي جديد خلال أربعة أشهر، وحكومة وطنية جديدة، ورئاسة جديدة للجمهورية، وفي النهاية يصبح تكريس الحوار شأنا يوميا في كل المؤسسات لحل جميع المشاكل بروح وطنية.

أما الجزء الثالث من الحل الذي طرحه الحص فيتمثل في ضرورة تفعيل مؤسسات وآليات معاهدة الأخوة بين لبنان وسوريا والتي يرى أن عدم تفعيلها في السابق أحدث فراغا أدى إلى التجاوزات والأخطاء بنمو دور الأجهزة الأمنية على حساب المؤسسات السياسية.

وبشيء من التدقيق في مشروع الدكتور الحص يمكن أن ينتقل لبنان من الانقسام إلى الوحدة ومن الطائفية إلى الوطنية، ومن القابلية للاختراق إلى المنعة والقدرة على الممانعة ومن التغريب إلى التعريب، ومن المواجهة لصالح العدو المشترك مع سوريا إلى الأخوة، ومن التباعد إلى التعاون ومن التفريق إلى التنسيق.

إن «مشروع الحص» الذي يطرحه اليوم والذي يرى بأن مشكلة لبنان الحقيقية هي في الطبقة السياسية اللبنانية، وأن الحل لتحقيق الوحدة الوطنية لا يأتي بجمع أطراف هذه الطبقة المختلفة المصالح والتوجهات في حكومة واحدة، إنما يكون الحل الحقيقي بتخطي هذه الطبقة وتجاوزها وتأكيد سلطات المؤسسات الوطنية الديمقراطية.

يذكرني هذا المشروع الجديد بإجابته على سؤال قديم كنت قد طرحته عليه في الدوحة عام 1976 في الأسابيع الأولى لتوليه رئاسة أول حكومة لبنانية في عهد الرئيس سركيس وأثناء اشتعال الحرب الأهلية، حين ذهبت إليه مستغربا كيف يمكن لرجل الاقتصاد حل مشاكل السياسة وطرحت عليه السؤال التالي في بداية الحوار الصحافي: «دولة الرئيس. ..قمتم بتشكيل حكومة تكنوقراطية لا سياسية .. فكيف يمكن لهذه الحكومة التكنوقراطية أن تنجح في حل هذه الأزمة السياسية؟».

رد بهدوء واثق: «من قال إننا حكومة تكنوقراطية ؟..إننا في الواقع حكومة سياسية بالدرجة الأولى. ولكن من دون سياسيين»، وأضاف قائلاً.. إذا كانت المشكلة ناتجة عن السياسيين فكيف يمكن أن يكونوا هم المشكلة وهم الحل؟! الحل في حكومة تعتمد على الكفاءات الوطنية لا على الشخصيات السياسية التقليدية.

تعلمت يومها درسا جديدا في السياسة كما خرجت بانطباع هو أن الدكتور الحص رجل دولة من الطراز الأول وأنه الشخصية الأكثر جدارة بمعالجة الأزمة والأكثر سياسة من كل السياسيين.

كاتب مصري

mamdoh77t@hotmail.com

Email