النظرة الأميركية للثقافة العربية

النظرة الأميركية للثقافة العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

ورثت الثقافة الأميركية نظرة الثقافة الأم الأوروبية تجاه الثقافة العربية الإسلامية، فهي تتوافق مع نظرة الثقافة الأوروبية في نظرة التعالي ولكن هناك بعض الاختلافات التي تنفرد بها النظرة الأميركية تجاه العرب والمسلمين عموما.

فالولايات المتحدة لم تدخل في صراع حضاري وعسكري طويل مع العرب والمسلمين مثل ما كان عليه الحال بين أوروبا والعرب والمسلمين فتاريخ العلاقة بين هذين الطرفين مر بمرحلتين، الاولى كان يمثل فيها العرب والمسلمين بالنسبة إلى اوروبا الخصم والند والعدو المكروه، وفي المرحلة الثانية تدنت فيها النظرة اليهم بعد ان هزمتهم واستعمرتهم فأخذت تنظر إليهم بعين الازدراء والتعالي.

وبالتالي فان أوروبا عندما تحاور العرب تظل محتفظة بهذه النظرة الدونية ولكن مع ذلك يبقي شبح العدو والخصم يلوح في أفق ذاكرتها التاريخية البعيدة، بينما يخلو التاريخ الأميركي والعربي من هذا النوع من الصراع الموغل في الزمن والذي طرفاه كانا متكافئين، ولهذا فان الثقافة الأميركية لم ترث في حقيقة الأمر، من أمها الأوروبية سوى نظرة الازدراء والتعالي ولا تعترف للعرب والمسلمين بأية خصومة أو ندية في أية مرحلة من مراحل التاريخ وبالتالي فان أي لقاء بين الثقافة التي تعتبر نفسها هي المرجعية السامية لكل أبناء البشر وبين ثقافة الجماعة الذين تعتبرهم تلك الثقافة عدميين واتوا من خارج التاريخ لا يمكن وصفه بأنه حوار في ظل الاعتراف المتبادل، فهاهو الرئيس الأميركي هاري ترومان يكتب وجهة نظره في العرب قائلا لقد كان الشرق الاوسط ذات يوم مهد دول العالم العظمى فظهرت فيه إمبراطوريات نبوخذ نصر وداريوس الكبير ورمسيس الثاني. وما ان ذهبت هذه الإمبراطوريات حتى سادت الاختلافات واشتعلت الحروب الأهلية وساد التدهور وإذا استثنينا فترة قصيرة فان العرب لم يستطيعوا أن يعيدوا لهذه المنطقة نفوذها .

لاشك أن نظرة الازدراء تتزاوج هنا مع نظرة الخبث فالإعلاء من شأن قوى وحضارات محلية لم تتجاوز تأثيراتها حدودها الجغرافية، وإطلاق صفة العظمة على ممالك نبوخذ نصر وداريوس ورمسيس التي لا تلحق بها صفة عرب أو إسلام، في الوقت الذي يجرى فيه التقزيم التاريخي للعرب والمسلمين وتجاهل امبراطورياتهم التي تقاسمت مع الغرب صناعة تاريخ وحضارة العالم، كل هذا ليس متأتيا من الجهل فقط بل العداء أيضا، وهو عداء لا تكمن خطورته في انه موجه إلى الماضي، بل كونه يتوجه إلى المستقبل ويرسم خطى الحوار والاعتراف المتبادل الموعود، فمن خلال مثل هذه النظرة إلى تاريخ المنطقة وحضارتها سيجري هذا الحوار وذلك في ظل مبدأ التعددية الثقافية وتفعيل الهويات المختلفة سواء كانت طائفية أو عرقية أو جهوية، او كانت هويات لها جذور تاريخية وماضي وامبراطوريات وحضارات عظيمة غمرها طوفان العرب والمسلمين وأخرجوها من سيرورة التاريخ ولم يقدموا بعدها سوى الفوضى والعدمية.

إن من إحدى اكبر العقبات التي تعترض الحوار بين الثقافة الأميركية وأية ثقافة أخرى بما في ذلك الثقافة العربية هو أنها ثقافة تستند في جذور نشأتها على العنف وتصفية الآخرين ماديا ومعنويا والحلول محله، فقد قامت بإبادة سكان أميركا الأصليين من الهنود الحمر ثم تابعت تصفيتهم معنويا عن طريق نشر ثقافة ذرائعية بواسطة الأفلام والمسلسلات التي تبين فيها الهندي الأحمر همجياً متوحشاً يثير الرعب والاشمئزاز ولا فكاك منه إلا بقتله والقضاء عليه لكي يعود الأمن والطمأنينة والسلام إلى الطرق التي تنساب عبرها قوافل الأمل والحياة والنساء الجميلات والأطفال الساحرين الأبرياء، نحو القرى العامرة بالخيرات والعلم والحالمة فوق الربوات والسهول الخضراء بغد مشرق يصنعه الإنسان الأبيض الأشقر الشجاع الذي يكافح ضد الهمج وأعداء الحياة .

كذالك تعتبر العقلية الأميركية عقبة أخرى أمام أي حوار فمن المعروف ان نجاح اى حوار يتوقف على مدى استعداد كل طرف على قبول حلول الوسط ومن المعروف أيضا أن الولايات المتحدة خلال عمرها القصير لم تعرف في صراعاتها مع الآخرين حلولا وسطا، فالذهنية والعقلية الأميركية هي اقرب إلى عقلية المباريات الصفرية وبالتالي فان التفاوض أو الحوار بالنسبة لهذه العقلية هو دائما عملية مواجهة وصراع، فلم يسبق ان خاضت الولايات المتحدة صراعا وخرجت منه بحل وسط فهي إما أن تكسب كل شيء إذا استطاعت حتى لو كانت وسيلتها في ذلك السلاح الذري، فرغما عن قوانين الحرب والأعراف الدولية والأخلاق، ألقت بالقنابل الذرية على رؤوس الأطفال والنساء والمدنيين اليابانيين بكل اطمئنان لأنها تدرك أن الطرف الآخر لا يستطيع ان يجازيها بالمثل، وأما أن تخسر على غرار صراعها في فيتنام، فقد قبلت الخسارة لأنه لم يكن بإمكانها ان تكرر التجربة اليابانية دون عقاب ولم يكن بإمكانها آن تستمر في الحرب حسب قوانين لعبة الصراع التي فرضها عليها خصومها بالأسلحة التقليدية.

ان مثل هذه العقلية التي تشكلت في بوتقة ثقافية استحواذية، لا تنفتح على الآخر وتحاوره الا من اجل تحقيق نتيجة واحدة فقط وهي احتواؤه ثم الغاؤه، فمثل هذه الرؤية لا يمكن تغييبها أثناء أي حوار بينها وبين الثقافات الأخرى وخصوصا إذا تعلق الأمر بالثقافة العربية الإسلامية التي تعتبرها الثقافة الأميركية معادية في كل أطروحاتها وتطلعاتها السياسية ومتناقضة معها بمفاهيمها وقيمها، في حين تعتبر أميركا نفسها ثقافة العقل والإبداع!

كاتب ليبي ـ جامعة بنغازي

Email