خدام.. وحديث «الخيانة»

خدام.. وحديث «الخيانة»

ت + ت - الحجم الطبيعي

ماذا قال عبدالحليم خدام عبر «العربية» حتى يجتمع (البرلمان السوري) ويتهم خدام بالسرقة والفساد طوال أربعة عقود، ويطالب بمحاكمته بـ «الخيانة العظمى» ومصادرة ممتلكاته ووصفه بأبشع الأوصاف؟! ثم تجتمع (القيادة القومية لحزب البعث الاشتراكي) فتقرر طرده من الحزب باعتباره (خائناً للحزب والوطن والأمة).

ترى ما جناية خدام؟ هل أفشى أسراراً عسكرية؟ هل نقل معلومات خطيرة ضد وطنه؟ إنه انتقد عدم جدية النظام في الإصلاح بسبب الفساد والمصالح الشخصية، وحينما تعذّر الإصلاح استقال. فهل في هذا الحديث، وبغض النظر عن صحته أو بطلانه ـ ما يستوجب الخيانة والمحاكمة؟!

ألا ننتقد جميعاً حكوماتنا؟ ألا نتكاتم عن تفشي الفساد والمحسوبيات ببعضها؟ ألا يعترف المسؤولون أنفسهم بذلك صراحة؟ ألم يقل الشيخ صباح الأحمد آن الفساد في أحد وزاراته لا تشيله البعران؟! ما علاقة النقد بالخيانة والعمالة؟

لا أدافع عن خدام ولا يعنيني كثيراً صحة اتهامه للنظام ولا اتهام النظام له، إنما يهمني جانب مهم في الحديث لم يسترع انتباه الكثيرين، إذ انشغلوا بالفعل وليس برد الفعل، فتساءلوا: لماذا حديث خدام الآن؟ ولماذا انشق على النظام؟

ولماذا كانت الصحوة المتأخرة للضمير بعد خمسة وثلاثين عاماً وكثيرون في لبنان فرحوا به باعتباره (شهادة من أهلها) تسند تقرير ميليس في تورّط سوري محتمل.

ومنهم من قال انه رصاصة الرحمة أطلقها خدام على نظام البعث، وبعضهم استنكر حق خدام الذي أمضى خمسة وثلاثين عاماً مدافعاً ومشاركاً للنظام ان يتحول ناقداً ومعارضاً؟! وهناك من ترحّم عليه إذ اعتبره في عداد المتوفين أو المنتحرين بعد حديثه.

لا يعنينا حديث خدام إلا بمقدار رد الفعل عليه، إذ لم يتساءل أحد، كيف صاغ لبرلمان يفترض أنه الصفوة السياسية الممثلة للمجتمع والرقيبة على أداء الحكومة أن يسكت على الفساد الذي يتهم به خدام فيقرر الآن اتهامه بالخيانة لأنه انتقد النظام؟ هل انتقاد النظام خيانة في معيار الفكر القومي؟

ـ إذن ماذا نقول عن المعارض الأميركي نعوم تشومسكي الرافض والمعارض العنيد لسياسات بوش ووصفها مراراً بالعدوانية والاستعمارية لو كان (نعوم) مواطناً عربياً لأعدم على الفور بالخيانة العظمى!! وماذا نقول عن الأميركيين الذين عارضوا الحرب على العراق؟والذين كشفوا فضيحة سجن (أبوغريب)؟ كل هؤلاء في مفاهيم بعضنا خونة وعملاء.

التخوين، هو السلاح الصارم الذي اعتمدته بعض النظم العربية ضد خصومها السياسيين وزجّت بهم في سجونها ومعتقلاتها ومارست أشد أنواع التعذيب وانتهكت كرامتهم واستباحت أعراضهم ـ بما لا يقاس بفضائح أبو غريب ـ وقد تم كل ذلك بتهمة «التخوين» فهم (أعداء الشعب) و(عملاء الاستعمار) و(الطابور الخامس).

احتكار (الوطنية) الذي تبنته نظم قومية لمدة خمسين عاماً هو الذي أضعف مناعة (المواطن) أمام (التسلط)، كما أضعف مناعة (الوطن) أمام التدخل الخارجي. فهانت هزيمة (الوطن) في سبيل بقاء (النظام) تلك الأحادية السياسية في الوطنية كان لها فعل «الإيدز» في الإنسان.

طبقاً لوحيد عبدالمجيد، تلك الثقافة الشمولية الإقصائية هي التي أنتجت طغاة العرب ورسخت أسطورة (البطل) في ذاكرة العرب وجعلتهم يتقبلون الاستبداد ويهتفون بحياة المستبد ولو قادهم إلى الهلاك، المهم أن يبقى القائد والنظام وكل ما فوق التراب تراب كما قال شاعرهم.

منهج «التخوين» هو الذي يجعل عقول البعض أسيرة للنظم الشمولية وتعيد إنتاج ثقافة القمع والإقصاء والخضوع لحكم المستبد العربي وقبول الاحتلال العربي ـ العربي فتدعو لمقاومة الانتخابات في العراق لأنها تجري في ظل المحتل الأجنبي بينما تبارك الانتخابات المفبركة في ظل المستبد العربي.

وهي ثقافة حولاء لا ترى في احتلال دولة عربية لجارتها وفرض وصايتها عليها عدواناً بينما ترى في تخليص العراق من طاغية أذلهم استباح كرامتهم إضعافاً للعرب وخدمة لإسرائيل!! لماذا لا يكون في إزالة الخراج المتقيح مصدر قوة ومناعة للجسم العربي؟

«التخوين» بضاعة مغشوشة، وأن لنا دفنها غير مأسوف عليها، وهي إحدى إفرازات النظم الشمولية التي قهرت الإنسان العربي وصورت له العالم تآمراً لتبرر تسلطها وفسادها ومناهضتها للإصلاح لقد آن لنا ان نصحو من أوهام نظريات التآمر ووساوس الغزو الفكري للهوية والثقافة العربية، فهما لا تستحقان أن يحاربنا العالم من أجلهما طبقا لكمال غبريال.

وينبغي ألا نبقى أسرى «الميراث الاستعماري» في نظرتنا للغرب كما يقول وحيد عبدالمجيد، علينا التخلص من أوهام الشعارات الثورية المضللة التي سادت فترة الستينات وجعلتنا خارج التاريخ والعصر والحضارة إلى متى تستمر الدولة التسلطية تتحايل على مآزقها الداخلية والخارجية وتتهم الخارج كذرائع لاستمرار الفساد والعجز.

لا أحد يفرط في وظيفته وهويته، لا أحد يتنكر لعروبته ولقوميته ولكن أية هوية وأية عروبة؟ قومية منفتحة على الآخرين، وعروبة مسالمة لا تخشى المساءلة وهوية عربية ليست أسيرة للتاريخ والنزعات التعصبية كما عبر عنها محمد جابر الأنصاري في سلسلة مقالاته الرائعة في الحياة.

نحن مع الناصرية ومعه في نقده البناء حين قال: «التحرر الذي نادت به الناصرية، كان ينبغي ان يكون تحريراً للمواطن والمجتمع من أجهزة السلطة وفسادها في المقام الأول.

وألا يقتصر على التحرر من الاستعمار الخارجي واستبدال تسلط داخلي بتسلط داخلي آخر» لقد سقط ضحايا كثر على مسار الدولة القومية هتفوا بالدماء أناشيد الفداء بينما كان حراس الفكر القومي للعرب هم الأصدقاء الحميمون لطغاتهم.

كاتب قطري

Email