مكتوم .. تاريخ لن يرحل ـ د. سّيار الجميل

مكتوم .. تاريخ لن يرحل

ت + ت - الحجم الطبيعي

«بالأمس كان المغفور له صاحب السمو الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم أبا لصاحب السمو الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم وإخوانه، واليوم فإنني أنا أبوهم وعوضهم فيه ، وهم عوضي أنا في أبيهم، كما أن صاحب السمو الشيخ مكتوم وإخوانه عوض شعب دولة الإمارات العربية المتحدة بما عرفته وعرفه هذا الشعب فيهم من حب وحرص وتفان في خدمة هذا الوطن ».

هكذا قال الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله رئيس الدولة الراحل، غداة وفاة الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم رحمه الله في الحادي والعشرين من أكتوبر 1990.

صعق العالم قبل ساعات بنبأ رحيل الشيخ الوديع مكتوم بن راشد آل مكتوم.. مضى بسرعة من دون استئذان إلى باريه وهو لم يزل في عز حيويته ونشاطه..

رحل هذا الرجل الهادئ المسالم فجأة بعد أن حكم إمارة دبي خمسة عشر عاما وصلت خلال عهده إلى أوج رقيها وتوهجت في قلب هذا العالم .. رحل هذا الرجل بعد أن ساهم في قيادة دولة الإمارات الاتحادية ونيلها مكانتها العالية بين الأمم ..

رحل هذا الإنسان الذي عرف بطيبته ووداعته وتحضّره بعد أن أكمل مسيرة مشروع والده النهضوية لبدء إمارة دبي حياتها الاقتصادية الفعّالة، عندما رحل الشيخ راشد أودع المسيرة لولده البكر الشيخ مكتوم ليصل بها برفقة أخوته الشيوخ الكرام :

حمدان ومحمد واحمد إلى مصاف تطورها الحضاري وسطوع نجمها البازغ.. لقد مضى هذا الرجل المبدع بكل شفافيته وطيبته بعد أن نهل من قدرات والده الراحل الشيخ الرائع راشد آل مكتوم ومن حكمة الشيخ المؤسس الزعيم الكبير زايد بن سلطان آل نهيان اثر رفقة طويلة لسنين طوال نائبا له في رئاسة الاتحاد.. وكان خير من نقل السلطة بأروع صورها من زايد الأب إلى خليفة الابن اثر رحيل الشيخ المؤسس.

* خصال رائعة

ماذا أذكر من أسمى الصفات والخصال التي كنت ارقبها عن كثب في زعيم إمارة أطلق حيويتها من أعماق التاريخ.. ووظّف استراتيجيتها القوية في صناعة توهجها اللامع..

وفجّر الطاقات والإبداعات من مكامنها في إعمارها وبناء جمالياتها.. حتى عدّت في عهده انضج مدينة كوزموبوليتانية عربية في قلب الخليج العربي.. بل ووصلت إلى أن تكون صاحبة أقوى اقتصاد حيوي من خلال مشروعاتها الكبرى..

سيقول التاريخ دوما بأن دبي على عهد مكتوم وصلت إلى أوج ما وصلت إليه مدن ودول عربية أخرى في القرن العشرين، بل وغدت بؤرة اقتصادية ومركزاً إعلامياً ومعبرا للثقافات المتنوعة وملتقى للإبداعات..

لقد صنع الشيخ مكتوم بكل تؤدة وهدوء تاريخا حيويا فاعلا من خلال قدرته على التواصل وما تمتع به من تفكير مستنير وما حفل به من خصال قلما تجتمع في زعماء آخرين. كان منفتحا على كل المجتمعات وكان حليما متسامحا وكريما مع نفسه ومع الآخرين .. وكان يعرف كيف يحكم بشفافية متناهية لا يعرف أي احتكار للسلطة ولا يهتم لصغائر الأمور.

. كان يؤمن بالتواصل الدائم مع المواطنين وقضايا الوطن وشؤون المجتمع .. وتقديرا من سموه لسياسة الباب المفتوح نجح في توثيق الصلة بين القيادة والمواطنين.. وهذا «النهج» الذي انتهجه كل من الزعيمين زايد وراشد.. وأتمنى أن يستفيد منه الزعماء العرب أجمعين في بناء تجسير فعّال بين الزعماء والناس كقاعدة ديمقراطية حيوية في بناء المستقبل.

تاريخ حافل

لقد علّمته التجارب وصقلته الرحلات وله تاريخ حافل مع عدد من الزعماء في العالم.. كان رجل المهمات الفعالة والقرارات الصائبة .. كان عربيا قحّا يعرف معنى السماحة ويدرك قيمة حلم الرجال وكرم الرجال ويوزن الكلمات وزنها .

. كان إنساناً متحضّرا في ترتيب الأولويات وكان متواضعا وقد ورث جملة من الأخلاقيات العالية عن اولئك الرجال الذين تربى في ظلهم أو الذين تعّلم منهم .. كان رجل قول وفعل معا وكان كريم النفس وله قدرة عجيبة على معالجة الأمور بهدوء وحلم عجيبين .

لقد عاش الراحل الكريم عمره ( 1941 ـ 2006 ) في مرحلتين اثنتين أولاهما تتضمنها الثلاثين سنة الأولى من حياته تعّلم فيها فن الإدارة وفن التعامل وأسلوب بناء الحياة وكيفية صنع القرار ونشأ خلالها في ظل تكوين دولة الاتحاد إذ رافق مسيرة نشوئها على يدي زعيمين كبيرين هما زايد وراشد وبمعيتهما شيوخ الإمارات الآخرين كولي عهد إمارة دبي وأول رئيس لمجلس وزراء الاتحاد.

أما في الثلاثين سنة الثانية، فلقد ساهم بشكل أو بآخر في كيفية تطور دولة الإمارات منذ إنشائها في 1971، إذ ترأس عدة مجالس لوزراء دولة الاتحاد على مدى زمني طويل، ومن ثمّ نائب رئيس الدولة إذ كان بيديه مفتاحان احدهما يكمّل الآخر، فهو زعيم إمارة أوصلها رفقة إخوته الكرام إلى مستوى عال من التقدم والنهضة والتطور، وهو نائب زعيم دولة اتحادية ساهم في رفع مكانتها وتطور مؤسساتها بين الأمم.

وكان الشيخ زايد رحمه الله يعتمد عليه في مهمّات عدة ويبّره كثيرا نظرا لخصاله وأريحيته الكريمة. وفي الرابع من يناير من 1995 تولى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ولاية العهد لإمارة دبي، فبدأ الشيخ مكتوم يعتمد على أخيه اعتمادا كبيرا نظرا لما وجده فيه من القدرات والطاقات، فغدا الساعد الأيمن له في البناء والإدارة والمشروعات العملاقة.

* الرؤية السياسية

وإذا ما أردنا أن نعرف ما الذي يفكّر فيه الرجل الراحل نتأمل ما قاله في أكثر من مناسبة كنائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، قال: «إن قيام المؤسسات الاتحادية والخدمية تسعى لترجمة تطلعات وطموحات الدولة الاتحادية حكومة وشعبا وعلى مختلف الأصعدة والمستويات شاملة المدينة والقرية».

إن تسلّم الراحل الكبير المسؤولية الأولى لأربع وزارات اتحادية شاهد على الدور الأساسي الكبير الذي كان يؤديه سموه في تحقيق الإنجازات العظيمة لشعب دولة الإمارات العربية المتحدة عبر 20 عاما من عمر المسيرة الاتحادية.

وعن ترسيخ فكر الاتحاد نتأمل قوله : «إن تلك المسؤوليات النابعة من الإيمان بترسيخ فكرة الاتحاد وكيان الدولة الاتحادية أطلقت المسيرة العملية لتلك المؤسسات الاتحادية لتجعل من واقع الاتحاد خدمات متنامية نابعة من حاجة المجتمع لها وساعية لتلبيتها بالتمام والكمال».

وللرجل إحساس بالمصير وبناء تطلعات المستقبل عندما يشّدد على مصادر الدخل بقوله: «من ابرز الأهداف المصيرية هو إيجاد مصادر للدخل بديلة عن البترول تتمثل في البتروكيماويات وخلق قاعدة صناعية ومحاولة الاكتفاء الذاتي لبعض المنتجات.. ولا اعتقد أن هناك عقبات كبيرة تحول دون الوصول الوطني تحقيق هذه الأهداف».

* مشروع «الباب المفتوح»

لقد التقيت بهذا الشيخ الرائع الذي رحل عنّا اليوم مرة واحدة في حياتي وضمن مناسبة كريمة قبل سنوات خلت .. كان رائعا بتواضعه وحلو حديثه وسلاسة أفكاره وكنت أتأمّل فيه كل السماحة والوداعة والانسجام مع النفس والآخر.. له كلماته المثقلة بعبارات الود وبدا لي انه يريد أن يصنع من كل الإمارات من خلال ما استطيع تسميته بـ «سياسة الباب المفتوح»:

مشروعاً رائداً في الحياة العربية بزعامة الشيخ زايد رحمه الله .. بدا لي انه حاكم يعشق مدينته وإماراته ويعتز أيما اعتزاز بجمالياتها وسحر طبيعتها وقوة موقعها وسمعتها في الآفاق.. بدا لي هذا الرجل انه يهتم بشؤون كبيرة ولا يبالي بصغائر الأمور وله فلسفته الخاصة للحياة وعشقه للرياضة والفن والجمال والسياحة والطبيعة والأشجار والصحراء..

كان يحبّ أن يخطط للأشياء تخطيطاً عصرياً.. كان يحب خيولنا العربية حبّا جما كجزء من موروث عربي أصيل وكانت له قدرته في تشخيص الأشياء .. كان يحب أن يخلق الأشياء الجميلة من دون أي تعقيدات ولا أي حواجز.. أعجبني جدا قدرته في التوازن بين الموروث.

والمعاصرة، بل وكان يهتم بالأشياء المعاصرة كي نكون - كما قال - جزءاً حيوياً من هذا العالم اليوم.. وجدته يحب النشاط والعمل والنظافة والخضرة والنظام.. كان يريد مجتمعا متحضرا مؤسسيا متضامنا ونشيطا بكل حيويته وفعالياته في كل الميادين..

وأخيراً: ماذا أقول؟

لقد رحل الشيخ مكتوم ولكن تاريخه لن يرحل أبداً .. وستبقى ذكراه مغروسة في الوجدان، وستذكره كل الأجيال القادمة بالذكر الجميل.. وستبقى كلماته وأحاديثه وأفعاله وتاريخه مدرسة لكل من يريد أن ينهل منها..

رحم الله الفقيد الكبير رحمة كبيرة وكل العزاء لدولة الإمارات العربية المتحدة وإمارة دبي بفقد الشيخ مكتوم وبارك الله في خلفه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد فهو خير خلف لخير سلف من اجل مسيرة الانجازات ولتبقى دبي مشروع توّهج في هذا العالم الكبير.

مؤرخ عراقي

Email