الخليجية وحدها لا تكفي ـ د. تركي الحمد

الخليجية وحدها لا تكفي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في يناير من عام 1990، وفي ندوة دورية أقامها منتدى التنمية، كان المطلوب مني كتابة بحث حول مجلس التعاون: تقويمه ومناقشة إنجازاته وإخفاقاته. عندما أعود اليوم إلى قراءة البحث أجد أنه لم يتغير شيء، بل وربما كان الوضع أسوأ.

وفي إحدى المقالات، وكان عنوانها «العروبة وحدها لا تكفي»، ناقشت بأن أحد أسباب فشل جامعة الدول العربية هو في قيامها على أساس واحد رئيس، أو لنقل على محور واحد، هو الانتماء إلى العروبة، دون أن يكون هناك وجود فعلي لمرتكزات أخرى، وخاصة مرتكز المصالح المشتركة.

وذات الشيء سبق أن نوقش بالنسبة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، من حيث إن الجامع بين دولها هو انتماء شعوبها إلى دين الإسلام ولا شيء آخر، ومن هنا تأتي عدم فاعلية هذه المنظمة، كما هو الحال في جامعة الدول العربية.

بطبيعة الحال فإنه من الجيد أن يقوم هذا التجمع أو ذاك على أسس من الهوية المشتركة، ولكن مجرد لانتماء إلى الهوية لا يكفي لقيام تجمع ناجح. فالدول العربية، وبصفتها دولاً، لها من المصالح المشتركة الشيء الكثير.

ولكن لها أيضاً من المصالح المتناقضة الشيء الكثير أيضاً. فدولة مثل المغرب أو الجزائر أو تونس، تجد أن لديها الكثير مما تكسبه حين توطد علاقاتها بدول أوروبا المتوسطية وليس بدول المشرق العربي مثلاً، وبالتالي فإنها قد تجد أن توطيد علاقاتها بالمشرق العربي قد يأتي على حساب قوة علاقاتها بدول أوروبا المتوسطية.

ودول مثل دول الخليج العربية، قد تجد أن تمتين أواصر العلاقات مع دول شرق آسيا، فيه من المصلحة ما يتجاوز فرض أواصر العلاقة مع دول المغرب العربي مثلاً.

وذات الشيء ينطبق على منظومة الدول الإسلامية، أو الدول مسلمة السكان كما أحبذ أن يكون الوصف. فدولتان مثل باكستان وأفغانستان، أو السعودية وإيران، أو الهند وباكستان، تتناقض مصالحهما وسياساتهما الخارجية.

انطلاقاً من منطق الدولة الذي لا يرحم، مما لا يمكن حله في ظل القول بمجرد الإسلامية، أو الانتماء الديني المشترك. من هنا كانت عدم فاعلية أي تجمع يقوم على أساس واحد قوامه الانتماء المشترك، أو الهوية الواحدة، سواء كانت دينية أو دنيوية.

بذات المنطق، ومن ذات المنطلق، يمكن أن نحلل حالة مجلس التعاون لدول الخليج العربية. ففي البداية، تأسس مجلس التعاون على أسس أمنية بحتة، في ظل الظروف الدولية والإقليمية التي كانت سائدة آنذاك، من حرب عراقية إيرانية (وكلاهما عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي)، وثورة شعبية في إيران، وغزو سوفييتي لأفغانستان، وحرب باردة بين عملاقي الأرض ذاك الزمان.

ورغم أن النظام الأساسي للمجلس (الدستور) ينص على أن «الخليجية» وتشابه الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، هو أساس التعاون بين هذه الدول وصولاً إلى وحدتها.

وهو أمر صحيح إلى حد بعيد وقتئذ، إلا أن العامل الأمني كان هو المحور الذي كانت دول المجلس تنضوي تحته وتدور في فلكه. بمعنى آخر، كان هنالك مصلحة مشتركة بين دول المجلس كانت هي الدافع لإنشائه، ومن ثم الحديث بصوت واحد في ما يتعلق بهذه المسألة تجاه الخارج.

ولكن، وبعد مرور ربع قرن على إنشاء هذا المجلس، نجد أن المجلس قد ضعف تماماً، بقدر ما كان ضعيفاً من الأساس، وأصبح مجرد كيان لا نتذكره إلا حين يجتمع أعضاء المجلس الأعلى، أو حين نستمع إلى أغنية: «أنا الخليجي... أنا الخليجي».

ففي الماضي، كان هنالك نوع من الاتفاق في هذا الشأن أو ذاك الشأن، أما اليوم فلم يعد هنالك اتفاق في أي شأن: سياسات خارجية متضاربة، اتفاقات انفرادية تتناقض مع أهداف المجلس وغاياته، هاجس أمني لكل دولة على حساب الهاجس الأمني المشترك، لدرجة توجس هذه الدول من بعضها البعض، حساسيات وحزازات بين النخب السياسية الحاكمة، هواجس سيادية لا تنطبق إلا على العلاقة بين أعضاء المجلس، وتنتفي حين يكون الأمر خارج حدود المجلس، وأشياء أخرى كثيرة.

وحين أُنشئ المجلس، كان التشابه بين الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية هو أحد العوامل المساندة للمجلس، أو لتوقع نجاح المجلس، ومن أجل ذلك كان الرفض الدائم لقبول اليمن عضواً في المجلس. أما اليوم، فلم يعد مثل هذا العامل قائماً إلى حد كبير.

فنعم كل أبناء منطقة الخليج ينتمون إلى أصول واحدة في النهاية، ولكن المجتمع السعودي ليس هو ذات المجتمع الكويتي مثلاً، أو المجتمع الإماراتي والمجتمع العماني، وعلى ذلك يمكن القياس.

ومن الناحية السياسية، هنالك اليوم نخب سياسية خليجية تحاول تسريع عملية الإصلاح الشاملة، وتحقيق التعددية السياسية والاجتماعية والثقافية، في ما هنالك نخب أخرى تحاول التثبيط ووضع العصي بين الدواليب. ومن الناحية الاقتصادية، هنالك دول خليجية تحاول أن «تحدثن» ـ من تحديث ـ أنظمتها وقوانينها بما يسمح باستجلاب أي قرش من الخارج.

في ما نجد أن هنالك دولاً أخرى تحاول، وبتأثير من فئات معينة ذات نفوذ، أن تثبط أي تغيير وكل تغيير في هذا المجال، حتى وإن فر القرش منها، طالما بقيت هي ثابتة ومؤثرة. فهل يجوز لنا بعد ذلك أن نتحدث عن تشابه الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟ أشك في ذلك.

إذن، وبعد مرور ربع قرن على إنشاء المجلس، لم يبق إلا «الخليجية» عاملاً مشتركاً بين دول المجلس، وهي وحدها لا تكفي، بمثل ما أن «العربية» وحدها لم تكن كافية لنجاح الجامعة العربية، وبمثل ما أن «الإسلامية» لم تكن كافية وحدها لقيام عمل إسلامي مشترك.

المطلوب اليوم، وبعد مرور ربع قرن على إنشاء المجلس، بكل ما يحمله هذا الربع من إنجازات ولو ضئيلة، وإخفاقات وإن كانت عميقة، هو إعادة إنشاء مجلس التعاون على أسس جديدة.

لا ترتكز على مجرد الهوية (خليجية أو عربية أو إسلامية)، ولا على مجرد التشابه في الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي تتباعد كلما مرت السنون، ولكن على أسس من المصلحة الصرفة التي لا يتعلق وجودها بعاملي الهوية والتشابه. عاملا الهوية والتشابه مهمان جداً كعاملين مساندين للعمل المشترك.

ولكن دون أن يكون لهما أساس من مصلحة مشتركة واضحة المعالم، فإنهما بذاتهما غير كافيين لنجاح أي عمل مشترك. لست هنا في مجال التنظير لتلك المصالح المشتركة التي قد تجمع دول المجلس، بعيداً عن قضية الهوية والتشابه، فتلك مسألة خاضعة لدراسة أوسع وأكبر، إذا ما توفرت النية والإرادة لقيام عمل خليجي حقيقي مشترك، فكل ما يراد قوله هنا هو أن مجلس التعاون بصيغته الحالية غير قادر على الاستمرار والنجاح.

ليس المطلوب هنا قيام وحدة خليجية، كما تنص المادة الرابعة من النظام الأساسي للمجلس، فذاك هدف غدا بعيد المنال، ولم نعد من التفاؤل كما كنا في بدايات إنشاء المجلس، فكل المطلوب اليوم هو بعث الروح في المجلس قبل أن يتحول إلى جامعة عربية أخرى: مجرد شبح باهت يلوح في الأفق كما يلوح السراب في ظهيرة يوم خليجي قائض.

أهداف المجلس تحتاج إلى إعادة تحديد، وكيان المجلس يحتاج إلى إعادة ترتيب وتركيب، ولا يكون ذلك إلا بتوفر الوعي والإرادة من حتمية العمل المشترك القائم على أسس واضحة من المصلحة الملموسة، بعيداً عن تلك الأهداف الكبيرة التي أوهمتنا بالوحدة، فإذا بنا إلى الشتات أقرب.

كاتب سعودي

Email