أحزاب المعارضة المصرية.. الحصاد المر للأزمة الشاملة ـ جلال عارف

أحزاب المعارضة المصرية.. الحصاد المر للأزمة الشاملة

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا كانت الأضواء قد تركزت على جانب واحد في الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة وهو صعود جماعة الإخوان المسلمين واكتسابهم الشرعية الواقعية وإن ظلت الشرعية القانونية محجوبة عنهم، وربطت بين ذلك وبين صعود تيارات مشابهة في العراق وفلسطين اللتين تشهدان تجربتين انتخابيتين مختلفتين لأنها انتخابات تحت الاحتلال المباشر..

فإن الوجه الآخر للتجربة الأخيرة في مصر والذي يستحق الوقوف عنده كثيراً هو هذا السقوط المدوي للأحزاب التي تمتلك الشرعية القانونية في الانتخابات، وبشكل لم يكن يتوقعه أكثر المراقبين تشاؤما.

وإذا كان الحزب الحاكم قد حافظ بالكاد على ما حققه مرشحوه الرسميون في انتخابات 2000 وهو في حدود ثلث المقاعد البرلمانية، واستكمل الأغلبية المطلوبة بضم المرشحين المستقلين بعد ذلك، فإن أحزاب المعارضة الرئيسية لم تحصد إلا حوالي عشرة مقاعد من مقاعد البرلمان الـ 444!

والمفارقة أن هذه النتيجة الهزيلة جاءت بعد عام شهد حراكا سياسياً كبيراً وتطورات في حركة المجتمع والدولة معاً، وشهدت تعديلاً دستورياً هاماً جعل الانتخابات على الرئاسة تجري بين أكثر من مرشح لأول مرة رغم كل التحفظات على نص التعديل الذي افقد الخطوة الهامة الكثير من تأثيرها.

وشهد انتزاع حق التظاهر السلمي، ونشوء العديد من الحركات الإصلاحية، وتصاعد المطالبات بتعديلات دستورية أساسية، وشيوع مناخ يوحي بترسيخ التعددية والسير في اتجاه الإصلاح بإصرار.

كان كل ذلك يوحي بأن يكون برلمان 2005 أكثر تمثيلا لكل التيارات السياسية وأن يستعيد الشارع السياسي عافيته، وتستعيد الأحزاب السياسية حضورها ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل جاءت النتيجة على العكس وتقلص تمثيل الأحزاب وتعمقت جراحها وانفتحت الأبواب أمام زيادة أزماتها الداخلية.

بالطبع يتحمل النظام جزءاً كبيراً من المسؤولية. فهو الذي حرص على محاصرة التجربة الحزبية لسنوات، وحدد حركتها داخل مقراتها أو داخل صحفها. وحرم عليها الممارسة الفعالة في الشارع السياسي وخاصة في الجامعات. وهو الذي استمر في حربه ضدها بالوسائل المشروعة وغير المشروعة حتى في الانتخابات الأخيرة..

ولكن كل هذا لا يكفي للوصول إلى النتيجة المؤسفة التي ما كان لهذه الأحزاب أن تصل إليها لولا أنها استسلمت لمقاديره، ورضيت بالقليل الذي سمح لها به. وركنت إلى الجمود الذي قتلها من الداخل قبل أن يجهز عليها المنافسون!

وحتى عندما فاجأتها التطورات السياسية والحراك الاجتماعي والسياسي في الشهور الأخيرة ظلت على حالها.. تتحدث باللغة نفسها وتتقدم للناس بالوجوه الرابضة نفسها في أماكنها منذ سنوات، وحتى عندما نشأت حركات جديدة فإنها ـ رغم أهمية الدور الذي لعبته ـ ظلت محصورة بين النخبة،ولم يسعفها الوقت ربما لتتجاوز هذه النقطة وتصل إلى التفاعل الحقيقي مع الجماهير.

وهكذا ذهب الجميع إلى الانتخابات وكأنهم فوجئوا بها رغم أنهم يعرفون موعدها من 5 سنوات، ولم ينجح أحد ـ بما فيهم الحزب الوطني والإخوان المسلمون ـ في رفع نسبة الحضور المتدنية للناخبين والتي أبقت ما يزيد على ثلاثة أرباع من يحق لهم التصويت بعيداً عن العملية الانتخابية، وهي النسبة نفسها في الانتخابات السابقة تقريباً..

وكأن حراكاً سياسيا لم يحدث. وكأن كل شيء بقي على حاله وهو أمر بعيد عن الحقيقة، ولكن المشكلة أن هناك أحزاباً بلا جماهير، ومن الناحية الأخرى جماهير تبحث عن أحزاب تجسد مصالحها الحقيقية، أو تحتاج لجهد أكبر لكي تستعيد المصداقية في العملية الانتخابية بكاملها.

جانب آخر لابد الوقوف عنده، وهو أن البعض ـ مع بداية الحراك السياسي الذي شهدته الساحة المصرية ـ راهن على العامل الأجنبي (والأميركي خاصة) وكان هؤلاء ومعظمهم من منظمات المجتمع المدني.

وبعض الناشطين الجدد في الحياة السياسية يرون أن الضغط الأميركي سيزاد على النظام في مصر لإجراء إصلاحات سياسية في ضوء التصريحات المتتالية للرئيس الأميركي وكبار مساعديه عن مهمتهم المقدسة في نشر الحرية والديمقراطية في المنطقة وفي ضوء التهديدات باستخدام صلاح المعونة الأميركية لفرض ذلك.

بينما كان آخرون يرون ـ بعد احتلال العراق ـ أن الوجود العسكري الأميركي في المنطقة سيجعل من واشنطن لاعباً أسياسياً في تقرير مصير التطورات الداخلية لدول المنطقة، وأن «النموذج» الديمقراطي الذي وعد المسؤولون الأميركيون ببنائه في العراق سيفرض على الأنظمة العربية السير على طريقه طوعاً أو كراهية!

لكن «النموذج» الذي وعدت به واشنطن تحول إلى «مستنقع» تحاول الخروج منه بأي ثمن هرباً من شبح فيتنام جديدة، والديمقراطية التي تم التبشير بأنها ستغزو المنطقة على الدبابات الأميركية لم تكن إلا استنساخاً لأسوأ ما في التجربة الطائفية التي سبق أن جرت لبنان إلى الحرب الأهلية المريرة.

والتي يحاول لبنان منذ سنوات الخروج من آثارها عبثاً. والعراق الذي ستتركه القوات الأميركية هو العراق المنقسم طائفياً وعرقياً بصورة لم يعرفها منذ نشأته الحديثة.

والضغوط الذي كان «الموعودون» بالديمقراطية الأميركية ينتظرونها بعد سقوط بغداد واختفت لتتحول إلى طلب للمساعدة للخروج من مأزق العراق بطريقة مشرفة.

والدور الذي كان مرفوضاً للجامعة العربية في العراق (وربما غيرها) أصبح مطلوباً، والعلاقات التي وصلت في مرحلة سابقة إلى درجة عالية من التوتر بين واشنطن والعديد من الأنظمة العربية الرئيسية هدأت، خاصة بعد تصاعد الأزمة مع سوريا وتزايد احتمالات المواجهة مع طهران.

وفي مثل هذا المناخ جرت الانتخابات التي جاءت نتيجتها بكل المفارقات...فالحزب الحاكم الذي حصل على أغلبية تفوق الثلثين من مقاعد البرلمان وهي النسبة المطلوبة لاتخاذ القرارات الأساسية والتعديلات الدستورية لم يحصل مرشحوه الرسميون إلا على 30% من المقاعد! والجماعة «المحظورة» قانونا هي القوة الثانية في البرلمان!

و الأحزاب الأخرى التي تتمتع بالقانونية لم تحصل إلا على نحو عشرة مقاعد!.. والخلل فادح حتى لو ادعى كل من الطرفين الأساسيين في البرلمان انه يمثل الجميع فليس هذا صحيحاً في ظل تضارب المصالح الاقتصادية والاجتماعية والتوجيهات الثقافية الذي يزداد باستمرار مع تصاعد وتيرة تطبيق «الأجندة» الاقتصادية التي تتحمل العبء الأساسي فيها الطبقات الفقيرة.

ومع تدهور أحوال الطبقة المتوسطة التي كانت الغائب الأساسي في المعركة الانتخابية الأخيرة، ومع تصاعد الدور السياسي لرجال الأعمال، وإخفاق الحركة العمالية التي انعكست في سقوط رئيس اتحاد عمال مصر في الانتخابات الأخيرة بطريقة أبرزت بعد المسافة بين القاعدة والقيادة في صفوف العمال.

وفي ظل هذه الأوضاع، فليس من الممكن أن تظل قوى اليسار والقوى الليبرالية والقومية في حالة الانحسار التي تعيشها، وليس من الممكن أن تظل الصراعات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية دون تعبير سياسي حقيقي عنها.. ولكن كيف؟

هل ستستطيع الأحزاب الحالية استيعاب حركة المجتمع؟ وهل ستحسن قوى المعارضة والحكومة قراءة ما حدث؟ وهل ستتمكن هذه الأحزاب من إصلاح نفسها وتجديد دمائها أم ستخلق حركة الجماهير تنظيماتها السياسية الجديدة التي تعبر عن المرحلة؟

وهل تستوعب كل الأطراف الدرس، وتدرك معنى غياب ثلاثة أرباع الناخبين عن المشاركة في العملية الانتخابية، ومعنى بقاء الأحزاب السياسية قاصرة على قيادتها، ومعنى انشغال الطبقة الوسطى وهي عماد التحرك السياسي بهمومها ومتاعبها الاقتصادية وابتعادها عن العمل الحزبي، ومعنى أن تظل قوى مؤثرة في المجتمع بعيدة عن التمثيل في البرلمان؟

وهل يدرك الجميع استحالة بقاء الصورة على حالها ومدى الحاجة إلى إصلاح حقيقي وعاجل يتيح لكل القوى الاجتماعية ـ على اختلاف توجهاتها ومصالحها ـ أن تجد تنظيماتها الحزبية القادرة على تمثيلها والدفاع عنها، وأن هذا هو الطريق الوحيد لكي يحل المجتمع مشكلاته بطريق سليمة، ويستعيد عافيته السياسية وقدرته على بناء المستقبل الذي تستحقه مصر وتستطيع بالتأكيد تحقيقه؟

من هنا كان تقديري الذي أشرت إليه في مقال سابق بأن الصراع خارج البرلمان سيكون أقوى من داخله، حيث الشارع السياسي يموج بالحركة التي تعجز الأحزاب السياسية عن استيعابها، وحيث التنظيمات العمالية لابد أن تصلها يد التغيير لتجسد قضايا العمال الحقيقية .

وحيث الطبقة الوسطى لابد أن تخرج من عزلتها لتقوم بدورها الأساسي في هذه المرحلة، وحيث الشباب الذي يفتقد القدوة وفرص العمل لابد أن يجد طريقة للإسهام الجاد في العمل العام الذي مازال يخضع لقيادات طال بقاؤها في مواقعها من دون أن تحقق نجاحاً يذكر، حيث يتلمس الوطن كله طريقاً لإخراج مشروع الإصلاح الذي طال حصاره.

نقيب الصحافيين المصريين

Email